الوصف
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب في منطق الفقه الإسلامي: دراسة سيميائية في أصول الفقه لسعود بن عبد الله الزدجالي. يقع الكتاب في 520 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
يقسّم أصولُ الفقه “العلامات” من حيث درجة دلالتها، وكيفيات هذه الدلالة. لذا، كانت “الدلائل السمعية” (=الخطاب الشرعي) بكل درجاتها وتحولاتها موضوعَ هذا العلم وخزّانَ علاماته؛ إذ تنظر السيمياء الأصولية في “الدليل السمعي”، من حيث إنه “علامة” يُستدل بها على “الحكم الشرعي” من جهة، وعلى مفهوم “الكلام النفسي” من جهة أخرى، ليشغل مفهوم “الكلام القديم” في علاقته بـ “الخطاب” مساحة محورية ومزدوجة لا يدلل على مراد المتكلم وإرادته بقدر ما يحيل على “الفعل الإنساني” الحضاري والأخلاقي. فالمتلقي في تفاعله مع “الواقع اللساني” المتمثل في الخطاب القرآني يشتغل اشتغالًا محوريًا اكتسبت به السيمياء الأصولية واقعًا تجريبيًا من جهة أنه أعاد إلى الكلام النفسي شرعيته التي استمدها من نشاط التلفظ في مقابل اللسان، وجعله مدلول الخطاب الشرعي ليمنح المضمون الفقهي القيمةَ الأخلاقية والقانونية (المطلوب الخبري).
مستوى العلامة اللسانية المفردة عند الأصوليين
يرتبط مستوى العلامة اللسانية بـ “مفهوم العموم” وعلاقاته في البرَدايم الأصولي الكلّي، بوصفه نظامًا سيميائيًا، بجميع العناصر المنضوية تحته من جهة، وبكلٍّ من الواقع والذهن من جهة أخرى؛ إذ إن الواقع يمثل “العالم الخارجي”، بينما يمثل الذهنُ الكلام النفسي وما يرتبط به من “إرادة تشريعية” أو الذات المؤوّلة أو “حالة المستدل”، بالتعبير الأصولي، وذلك كله يفتح الباب أمام معالجات الفصل لمسألة العلاقة بين وجهَي العلامة اللسانية وصلتها بالخارج. لذلك يُعتبر السؤال: لماذا يُعَدّ الكلام النفسي مفهومًا مركزيًا وجوهريًا في السيمياء الأصولية، ولا سيما في العموم والخصوص، سؤالًا مهمًا، لا لأنه يستحضر “المشرّع” فحسب، بل لأنه أيضًا يموضع الفعل التأويلي الإنساني في مركز العمليات السيميائية في البرَدايم الأصولي، ويُضاف إليه سؤال العلاقة بين الكلام النفسي والعموم والخصوص.
يمكن استثمار الكلام النفسي، بوصفه مقولة جوهرية ومركزية في أصول الفقه واللاهوت الديني الإسلامي. ويمكن أيضًا استدعاء المعطيات الديكارتية اللاحقة التي لا يمكن أقصاؤها عن التأثر بمعطيات اللاهوت من حيث هو فلسفة تأويل للصفات الإلهية، بحيث يؤدي هذا الاستثمار إلى محاولة فهم “المظهر الإبداعي للاستعمال اللغوي”، وفي تفسير الواقعة القرآنية وارتباطها بالذهن والغريزة السيميائية؛ فالإنسان ليس واصفًا للكائنات أو المحيط الطبيعي بمفرداته، وإنما يمتلك القدرة الفاعلة لتشكيل المحيط عبر المشترك بينه وبين “الذات المتكلمة الأزلية” أو ذات التلفظ متمثلًا في الكلام النفسي؛ ما يجعل السيمياء الأصولية تنظر إلى خطاب الشرع بوصفه جسر العبور منه (= المتلقي) إلى “الذات المتكلمة” المالك الأول للمدلول التشريعي من حيث هو فضاء أوسع من مساحة نسيج “العلامات اللسانية”، فقام من خلال لغته، التي هي نتاج تنظيم فكري خاص بالإنسان ومترجِم لطبيعته، بتنظيم الفضاء الإلهي بالتناظر بين الذات المتكلمة الأزلية و”الذات الإنسانية”، فتحولت ذاته إلى مشرِّع حقيقي بسبب استدعاء الكلام النفسي إلى الخطاب الشرعي.
العلامات اللسانية في السيمياء الأصولية
تنظر السيمياء الأصولية إلى المعنى الشرعي أو القضية الشرعية المكتسبة من خطاب الشارع عبر مستويات مختلفة في البرَدايم الأصولي. ومن خلال إدراكنا أهمية العموم والخصوص وعلاقاتهما بخطاب التكليف ودرجات البيان، ناقشنا علاقة العناصر المشكِّلة للعلامة اللسانية من جهة، وارتباطها بالواقع والذهن من جهة أخرى، لفهم النموذج الأصولي في إنتاج القضايا الشرعية.
إن “الاستغراق”، بوصفه اصطلاحًا أصوليًّا، يرتبط بالعموم والخصوص. والعلامة اللسانية الخاصة بالعموم وضعًا في السيمياء الأصولية، هي التي تجعل الاستغراق ممكنًا؛ فـ “الإمكان” يتحقق بوجودها، ولكنه لا يتحقق تحققًا فعليًا إلا بالنظر في الخطاب نفسه. وبناء عليه، فإن تحديد “الصيغ” أو العلامات وتصنيفها يُعدّان خطوة أولى في البرَدايم الأصولي، ليكتسب النص السمة التشريعية.
اختلف الأصوليون في النظر إلى “صيغ العموم”، بوصفها علامات لسانية دالة على العموم، وفق مذاهبهم ومدارسهم الفقهية التي ينتمون إليها. وتختص السيميائيات الأصولية باستعمال مصطلح “الصيغة” هذا في تصنيف العلامات اللسانية، في الاستثناء و”صيغ السؤال” والشرط والعموم وخطاب التكليف، وغيرها.
إن القصد يرتبط بـالكلام النفسي كما يرتبط بـحالة المستدل، إذ تشتغل الاستدلالات لتشكيل “الحالات الذهنية” الممكنة في استثمار النص الشرعي.
وإذ كان الكلام النفسي صفة ميتافيزيقية عند الأصوليين، فإن اكتشاف هذه الصفة يعتمد على حالة الذات المتكلمة في الوسط الإنساني، والبحث في عوائدها يكون داخل الخطاب لا خارجه. وبناء عليه، فإن صيغ العموم وضِعت للإمكان. والخطاب الذي يتضمن العلامات اللسانية، كما يتضمن قصد التعميم، هو دائرة تحقق الإمكان تحققًا ظاهريًا وليس نهائيًا بسبب انفتاحه على إرادة التخصيص؛ فالعموم واقع في السيمياء الأصولية في مسار التحولات والسيرورات وفقًا لدرجات التلقي. وبناء عليه، فإن العلاقة بين الدال والمدلول، بوصفهما وجهَي العلامة اللسانية، علاقة مضطربة في الخطاب الشرعي بسبب تلك الإمكانات. لذلك، جوّز الأصوليون انتقال القطعي في ثبوته إلى الظني بسبب كونه “ظاهرًا” في الدلالة؛ ما يعطي الخطابات مرونتها التشريعية.
الموضوع والسيرورات الدلالية
إن موضوع العلامات اللسانية الموضوعة للعموم يُعَدُّ موضوعًا إشكاليًا في السيمياء الأصولية؛ إذ يثير جدلًا في العلاقات بين التصور الذهني والعبارة والموضوع. وقد وظفت العلاقة الجمعية لانتزاع موضوع العلامة اللسانية، وتقوم صيغ العموم بتجميع أنحاء الوجودات بوصفها هويات عينية ليس لها “صورة كلية” في الذهن، حتى يسعفها الوضع اللساني بنسبة “الدوال” إلى المعاني، وهي المجردات الذهنية من جهة، ونسبة الموجودات إلى الإدراك من جهة أخرى، وهو الشرط الضروري والكافي لتوظيف اللغة، وإدراك العلاقة بينها وبين الفكر.
إن تصور الواقع في السيمياء الأصولية يكون بالحواس أو الدلائل العقلية، واللغة تمثيل داخلي للحقيقة الخارجية. لذلك، برز دور الخيال عند الغزالي، إذ تتحدّر البنى التصورية من تجربتنا الحسية؛ فالصورة الذهنية أو العمليات الذهنية تُعَدّ نقطة تمفصل لميلاد اللسان. ثمّ إن توظيف اللسان بمعزل عن الواقع لا يمكن تصوره في السيمياء الأصولية؛ فالمدلول يثوي في الذهن ولكنه يرتبط بالواقع من خلال روابط طرحها الأصوليون انطلاقًا من التعاند مع الخارج.
يوصف موضوع العلامات اللسانية الخاصة بالعموم بأنه “كلية” أو كلي، ولا يمكن الإمساك به في الخارج، وتلك نزعة اسمانية ترى أن هذه الكائنات الذهنية اعتبارية. ولعل مصطلح “الإرجاع” هو البديل الذي يمكن أن يعبّر عن عمليات الارتباط بين العلامة ومدلولها في سياق العموم. وبناء عليه، فإن الإشكال السيميائي في العمليات التأويلية الدائبة بحثًا في العلائق بين الخطاب والموضوع والتكليف، وهو توجيه الخطاب من المشرّع في مقام التخاطب إلى المتلقّي.