الوصف
This post is also available in:
English (الإنجليزية)
صدر عن معهد “تشاثام هاوس” كتاب بعنوان: “قواعد موسكو: ما الذي يدفع روسيا إلى مواجهة الغرب؟”، من تأليف “كير جيلز”، وهو خبير بارز في الشأن الروسي.
يُناقش الكتاب المرجعيات والاتجاهات القيمية والأيديولوجية التي تحكم السياسة الخارجية الروسية، وتقييم رؤية موسكو لنفسها وعلاقتها بالعالم الخارجي، والتي إن وُضعت في الاعتبار قد تساعد في تجنب الأخطاء الباهظة والتصعيد غير المرغوب فيه في علاقات الغرب مع وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، من وجهة نظر المؤلف.
وقد ضم الكتاب أربعة أجزاء، استعرض المؤلف خلالها مكانة روسيا على الصعيد العالمي، ونظامها الداخلي، والخلفية التاريخية للسياسة الروسية، وآفاق التغيير المرتقبة، وأخيرًا مستقبل العلاقة مع موسكو.
في البداية يوضّح “جيلز” أن روسيا والغرب مثل الجيران غير القادرين على فهم بعضهم بعضًا، ويرجع السبب الرئيسي لذلك في أن قادة الدول الغربية يميلون إلى الاعتقاد بأن على موسكو أن تتصرف كدولة غربية تتمتع بعقلانية، وذلك على الرغم من أنّ توجهات وقرارات القادة الروس لعدة قرون كانت تتم بناءً على تقاليد راسخة.
وفي هذا الإطار، يؤكد المؤلف أن محاولة الغرب التعامل مع روسيا دون محاولة فهم كيف ينظر الروس إلى العالم؛ هي السبب في الأزمات المتكررة بين الطرفين، حيث استخدم القادة الروس (ليس فقط الرئيس الحالي “فلاديمير بوتين”، بل وأسلافه أيضًا، وكذلك خلفاؤه مستقبلًا) أدوات استراتيجية متسقة مع بقية العالم، وهي وإن كانت تبدو غريبة من المنظور الغربي؛ إلا أن فهمها ضروري للنجاح في التعامل والتعايش مع موسكو، وتطوير علاقة أكثر إنتاجية وأقل عرضة للأزمات.
ويشير “جيلز” إلى أن الافتراض القائم على فكرة أن الروس ليسوا مختلفين تمامًا عن الولايات المتحدة والغرب، وأنهم يرون العالم ويتفاعلون مع الأحداث بنفس الطريقة التي يتعامل بها الغربيون؛ أعاق فهم المُثُل والقيم والآمال والمخاوف والدوافع المشتركة التي يتمتع بها غالبية الروس، وتلك التي تُميّز موسكو عن الدول الغربية وواشنطن.
ومن العناصر الأساسية التي تشملها رؤية روسيا لمكانتها والتي تساهم في تحديد كيفية تفاعلها مع العالم الخارجي؛ اعتقاد موسكو بحقها في أن تُعامَل كواحدة من أهم دولتين أو ثلاث دول في العالم. وقد يشير المحللون الغربيون إلى أن روسيا بعيدة كل البعد عن أن تكون دولة رائدة عالميًّا، خاصة عند النظر لبعض المؤشرات، مثل: الناتج المحلي الإجمالي الصغير نسبيًّا، واقتصادها غير المتطور، ومحدودية تأثير نفوذها في العالم. وإن كان هذا صحيحًا، لكنه ليس بالضرورة المعيار الذي يتم من خلاله النظر إلى الدولة من قبل القيادة الروسية، بما في ذلك الرئيس “بوتين”.
من المنظور الغربي، اتّسمت قرارات السياسة الخارجية الأخيرة لروسيا بعدم العقلانية، حتى إن المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” وصفت الرئيس “بوتين” بأنه يعيش في عالم مختلف، ومع ذلك يرى “جيلز” أن قرارات موسكو وردود أفعالها تتّبع منطقًا داخليًّا متسقًا، يرتكز على أساس متين يتمثل في استعادة قوة روسيا ومكانتها ونفوذها في العالم، وتطوير أدوات الدفاع لتأمين احتياجاتها الأمنية، بغض النظر عن مدى عدم إدراك ذلك التصور من الخارج.
كما تجدر الإشارة إلى أن الاختلاف الهام الآخر في التصور بين روسيا والغرب، والذي يتردد صداه في السياسة الروسية اليوم؛ هو مسألة: كيف انتهت الحرب الباردة؟ وما إذا كانت تُعد هزيمة للاتحاد السوفيتي على يد الغرب أم إن موسكو انسحبت طواعيةً من تلقاء نفسها؟.
اتّسم شكل الحكم في روسيا بالثبات النسبي على امتداد تاريخها، ويوضح “جيلز” أنه فقط منذ نهاية الاتحاد السوفيتي بدأت بعض التعديلات في نمط الحكم “الاستبدادي” بطبقة عليا صغيرة مقيدة، وطبقة متوسطة لا تُذكر مدعومة بكتلة مجهولة ومضطهدة. ومنذ المراحل الأولى لوجودها، سخرت موسكو جميع مواردها الضئيلة في الدفاع والحرب والاستعمار.
وإحدى أكثر السمات الثابتة للنظام الروسي التي تميزه بشكل واضح عن الأوروبي هي العلاقة بين الدولة والرعايا. ففي أوروبا، ولا سيما في الأجزاء التي تتمتع بتقاليد طويلة من الحريات المدنية والديمقراطية، يستند توازن المصالح بين الدولة والرعايا إلى مبادئ مقبولة بشكل عام، وهي احترام الحقوق وتحمل المسئوليات؛ إلا أن روسيا لم تشهد مثل هذا التوازن أبدًا؛ إذ لم يتشكل المجتمع المدني كما هو مفهوم في الغرب، والمبدأ الرئيسي للتنظيم الاجتماعي هو الجماعية التي تأسست على فكرة خضوع الفرد لمصالح المجموعة. ومن هذا المنطلق، يشارك القادة الروس في مغامرات خارجية من أجل تعزيز الشرعية الداخلية، ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك التدخل الروسي في سوريا.
وفيما يتعلق بمواقف المعارضة، يبالغ الغرب في تقدير مدى وأهمية الاحتجاجات الشعبية والمعارضة السياسية المنظمة في روسيا، حيث يرى “جيلز” أن معظم الاحتجاجات الواسعة التي وقعت في الدولة خلال القرن الحالي ليس لها علاقة بالدعوات المطالِبة بتغيير سياسي، بقدر ما يمكن اعتبارها أحداثًا فردية ترتبط بمشاكل معيشية، مثل احتجاجات سائقي الشاحنات التي بلغت ذروتها في عام 2016.
يشير “جيلز” إلى أن دور الكنيسة والدين في المجتمع والسياسة الروسية معقد، وغالبًا ما يكون غير مفهوم من الخارج، ويستدل على ذلك من خلال بعض بيانات السياسة الخارجية المحيّرة. فعلى سبيل المثال، في أواخر أبريل 2016، صرّح وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” بـ”رفض العودة إلى العمل كالمعتاد مع أوروبا، لأن روسيا مسيحية للغاية، والتعاملات العادية مع الغرب من شأنها أن تعني أن موسكو أصبحت مثل أوروبا، وهذا يتعارض مع أسس ثقافتنا”.
هناك توجه مستمر لرسم أوجه للتشابه التاريخي في العلاقات الروسية-الغربية اليوم وفترات من الماضي السوفيتي والإمبراطوري، وتعود هذه المقارنات ليس فقط إلى مرحلة الحرب الباردة، ولكن تشمل أيضًا بداية الحرب العالمية الأولى، وتبعات حرب القرم، والعديد من الحلقات التاريخية الأخرى. ويوضح المؤلف أن من الصعب التفكير في فترة من التاريخ الروسي منذ أواخر القرن الثامن عشر تقريبًا، لم تتم الإشارة إليها باعتبارها سابقة لما يحدث اليوم. ويؤكد وجود خطأ يتم ارتكابه على وجه التحديد مرارًا وتكرارًا في التعامل الغربي مع موسكو يتمثل في افتراض أن حالة المواجهة مع روسيا مؤقتة، وأن الأمور سوف تتحسن بالضرورة.
ويُضيف المؤلف أن التوسع المستمر من خلال الغزو المباشر أو الاستعمار كان الخيار الافتراضي لروسيا دائمًا على مدار التاريخ. وقد يتغير الأساس المنطقي الخاص بشرعية التوسع مع مرور الوقت، لكن طموح التوسع ظل ثابتًا.
المصدر: مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
This post is also available in:
English (الإنجليزية)