الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة حوادث عنف سياسي كاقتحام مسلحين من مؤيدي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مبنى الكابيتول الأمريكي اعتراضاً على نتائج الانتخابات، كما خططت جماعة من الميليشيات القومية البيضاء لاختطاف غريتشن ويتمير حاكمة ميتشغان ومحاكمتها بتهمة الخيانة العظمى. تلك الحوادث وغيرها تبدو ظاهرياً وكأنها فردية من قبل مجموعة صغيرة من المتطرفين، لكنها بدت كاشفة عن ارتفاع ملحوظ في العنف والتطرف وجرائم الكراهية في مختلف الولايات الأمريكية، حتى أصبحت رؤية المسلحين مشهداً مألوفاً، ذلك العنف قد يدفع الدولة العظمى في العالم إلى حرب أهلية ثانية.
تُحذر أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا “باربرا اف والتر” من هذا المصير المأساوي لبلادها في كتابها الأخير (كيف تبدأ الحروب الأهلية: وكيف نوقفها)، والذي يعد خلاصة خبرتها البحثية والميدانية الطويلة في دراسة مئات الحروب الأهلية التي اندلعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في مناطق، كأيرلندا الشمالية، وكولومبيا، وسوريا، وزيمبابوي، وميانمار. إذ تفترض والتر أن هناك عدداً من المؤشرات عادة ما تسبق اندلاع الحرب الأهلية في دولة ما، مثل تصاعد الجماعات المتطرفة، وميل المواطنين إلى شراء الأسلحة، لافتة إلى أن تلك المؤشرات تظهر بوضوح في الولايات المتحدة في الوقت الحالي.
حالة الدولة “الأونوقراطية”
تعتقد الكاتبة أن الأنظمة السلطوية الكاملة تمتلك سلطات قمع كافية للسيطرة على أي محاولة للتمرد والعنف، في المقابل، تسمح الأنظمة الديمقراطية الكاملة للمعارضة بالمشاركة من دون اللجوء إلى العنف. لذلك، فإن الأنظمة السلطوية والديمقراطية الكاملة مُحصَّنة من الدخول في حروب أهلية. لكن عندما تضعف قوة الأنظمة السلطوية، أو تفشل الأنظمة الديمقراطية في حماية القيم الليبرالية، تصبح عندها الدولة “أونوقراطية”، ومن ثم قد تزيد احتمالية الاقتتال الأهلي، وعدم الاستقرار السياسي.
“الأونوقراطية”، هنا – كما ترى الكاتبة- تعني الدول التي تقع في الوسط، أي في مرحلة انتقالية بين الحكم المطلق والديمقراطي، بغض النظر عن اتجاه الانتقال. خلال تلك الفترة الانتقالية، غالباً ما تندلع معظم الحروب الأهلية وبمعدل ضعف احتمالية تعرض الأنظمة السلطوية الكاملة، وثلاثة أضعاف احتمال تعرض الديمقراطيات، والجدير بالذكر بأن غالبية دول العالم يمكن اعتبارها “أونوقراطية”، بما فيهم الولايات المتحدة، والتي قد تتخذ إحدى الشكلين:
أولاً: الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية: إن طريق الانتقال من الحكم المطلق إلى الديمقراطية الكاملة “محفوف بالمخاطر”، وغالباً ما تعاني الدول من فوضى الانتقال. فتتسم الحكومة في إطار التحول الديمقراطي بالضعف مقارنة بالنظام السلطوي المنتهي ولايته سياسياً ومؤسساتياً وعسكرياً. كما أن تلك الحكومة تعاني غالباً من الانقسامات الداخلية، وانتشار حالة عدم اليقين، وعدم الثقة في السلطات الجديدة. هناك أمثلة عديدة لدول أدى التحول الديمقراطي فيها إلى خلق بيئة ملائمة لتصاعد الاقتتال الأهلي بين الفصائل السياسية والدينية والعرقية المتنافسة. فعلى سبيل المثال، فبعد أشهر قليلة من انهيار نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين 2003، تسارع العراقيون إلى الانضمام للفصائل الطائفية المسلحة ودخول الدولة في حرب أهلية. كما أن أكبر الحروب الأهلية الموجودة حاليًا سواء في ليبيا وسوريا واليمن بدأت في ظل محاولات التحول إلى الديمقراطية.
ثانياً: الانتقال من الديمقراطية إلى السلطوية: بدأ عدد من الدول الديمقراطية المستقرة التحرك في الاتجاه المعاكس، أي شهدت انخفاضاً في مؤشر نظامها السياسي، حيث تأثرت 25 دولة ديمقراطية تقريباً، منها البرازيل والهند والولايات المتحدة، بموجة الاستبداد الدولي. إذ بدأ بعض القادة الديمقراطيين في ترسيخ الحكم السلطوي بعد وصولهم إلى الحكم بالانتخابات، فأعطوا الأولوية لأهدافهم السياسية عن متطلبات الديمقراطية السليمة، واتهموا الديمقراطية بأنها ستتسبب في الفشل والفساد، واكتسبوا تأييد المواطنين، من خلال استغلال مخاوفهم على الوظائف والهجرة والأمن. وتسمح الأنوقراطية، لاسيما إذا كان النظام أقرب إلى ديمقراطية من السلطوية، للمواطنين بحمل السلاح، والبدء في القتال. مع العلم أن انحدار الديمقراطيات الليبرالية هو ظاهرة جديدة، ولم يقع أي منها في حرب أهلية شاملة حتى الآن.
تناحر وخفض “التصنيف”:
ترى الكاتبة أن الحروب الأهلية عكست بشكلٍ متزايد الانقسام العرقي والديني، ومع ذلك، فالتنوع الإثني لا يقود الدولة بالضرورة إلى الحرب، لكن المشكلة تكمن في ارتباط ذلك التنوع بالسلطة. إذ تتشكل الأحزاب السياسية داخل الدولة على أساس الهوية العرقية أو الدينية، وليس الأيديولوجية، وتسعى هذه الأحزاب إلى الوصول إلى الحكم على حساب الآخرين، ثم السيطرة على مقدرات الدولة، وإقصاء الفصائل المنافسة. غالباً ما تكون تلك الأحزاب/الفصائل غير مرنة، أي لا تقبل التسوية، كما أنها متقاربة في القوة، مما يخلق فرصة للتنافس الشرس بينهم. ومن أمثلة الدول القائمة على الفصائل المختلفة المتنافسة العراق ولبنان وسوريا. بالإضافة إلى الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي تعمد إشعال النيران العرقية والدينية بين شعوب الاتحاد اليوغسلافي السابق.
غالباً ما يكون الفصيل المحرِض على الحرب الأهلية هو الطرف المعرَض لفقدان السلطة أو حتى فقدها مؤخراً، حيث لا يجد أي طريقة أخرى لتأمين وضعه فيستغل الانقسامات لمحاولة إعادة تأكيد سيطرته، وذلك من خلال تعزيز القومية القائمة على الهوية لزرع العنف والفوضى، فيسخِّر وسائل الإعلام التابعة له لإقناع مؤيديه بأنهم “يستحقون” السيطرة. وتشير الكاتبة إلى أن تأجيج الانقسام حول الهوية ليس حكراً على النخب السياسية، لكن من الممكن أيضاً أن يقوم بها رجال الأعمال، والرموز الدينية وشخصيات إعلامية. فجميعهم معرضون لخسارة مكانتهم ومكاسبهم مع تغيير النخب المسيطرة، ومن ثم يستغلون الصدع العرقي لخدمة مصالحهم.
وتتحول الفصائل المتنافسة إلى العنف، عندما تشعر بأنها مستبعدة من العملية السياسية، أي لم يعد بإمكانهم الوصول إلى الوظائف الحكومية، لاسيما إذا ما كانوا ينتمون إلى نخبة سابقة فقدت مناصبها ومكانتها ونفوذها بسبب تغيير سياسي سلمي أو غير سلمي، وهو ما يُعرف بـ”خفض التصنيف”. إذ إن فقدان الفصائل لمكانتها السياسية والثقافية يُشعر الفصائل بـ”انقلاب الوضع”، وليس مجرد هزيمة سياسية، ما يؤدي إلى تأجيج الصراع في المنطقة. بالتالي قد يساعد “تخفيض التصنيف” على تفسير سبب اندلاع الحرب الأهلية في كل من يوغوسلافيا، والفلبين، والعراق، فعندما تم تخفيض تصنيف الصرب، وشعب مورو، والسنة على الترتيب تحولوا إلى استخدام العنف كمحاولة لتعويض الخسائر.
فقدان أمل مع تضليل:
قد يتحمل المواطنون سنوات من التمييز والفقر، ولكنهم لن يتحملوا فقدان الأمل في المستقبل. ويعتقد بعضهم أن العنف قد يكون هو البديل المتبقي، من أجل التقدم والتغيير إلى الأفضل. فعلى سبيل المثال، فقد كاثوليك إيرلندا الشمالية الأمل في الإصلاح السلمي عندما عاملهم الجنود البريطانيون على أنهم متسللون على أراضيهم. وعندما تفقد الفصائل الثقة في النظام الحالي، غالباً ما يتدخل المتطرفون لتقديم البديل. وفي أيرلندا الشمالية، كان الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت هو ذلك البديل.
تشير الكاتبة إلى أن غالبية الحروب الأهلية قد يسبقها احتجاج فاشل، أو انتخابات، أو كارثة طبيعية تدفع المواطنين إلى فقدان الأمل والميل إلى العنف. فمثلاً، تعكس الاحتجاجات تصاعد حالة الاستياء ورفض الوضع الحالي، فحينما تفشل الاحتجاجات في تحقيق أهدافها تهيأ الفرصة لنشوء الحرب الأهلية، مثل ما حدث في اليمن وسوريا. وكذلك الانتخابات، قد تكون مزعزعة للاستقرار في حالة أن احتكار السلطة والنفوذ من قبل الفائز فقط دون غيره، مما يشجع السياسيين على استخدام “ورقة الإثنية” في الدعاية وتعميق الانقسام. أما الكوارث الطبيعية، لاسيما المتكررة منهاـ قد تكشف مدى عدم كفاءة وفساد الحكومة مما يدفع المواطنين إلى العنف ضدها.
وتفترض الكاتبة أن هناك تزامنا بين تراجع الديمقراطية في العالم وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، لافتة إلى أن الأخيرة من أهم محركات الحروب الأهلية الأخيرة حيث سهَّلت كثيراً من عمل قيادات الفصائل في الحشد، وتأجيج الأوضاع. ووفرت مواقع التواصل الاجتماعي لأول مرة بيئة إعلامية لمنظري المؤامرة، والمتصيدين، والديماغوجيين، ومناهضي الديمقراطية لتداول المعلومات الخاطئة أو المضللة وخطاب يحض على الكراهية. ويُلاحظ أنه مع تغلغل وسائل التواصل الاجتماعي في الدول، زادت حدة الانقسامات العرقية والاجتماعية والدينية والجغرافية ما ترتب عليه نمو الفصائل، وتصاعد العنف. فعلى سبيل المثال اعترف فيس بوك في عام 2018 بأنه ساهم في العنف المجتمعي في ميانمار.
وعززت مواقع التواصل الاجتماعي من الشعور الدائم بالأزمة، فالمعلومات المضللة التي ينشرها المتطرفون تشوه سمعة المتظاهرين السلميين، وتخلق شعوراً زائفاً بأن المعتدلين لا يفعلون ما يكفي لحماية السكان، أو أنهم غير فعالين وضعفاء مقارنة بالمُعارضة العنيفة. في هذه المرحلة يندلع العنف، عندما يقتنع المواطنون أنه لا أمل في حل مشاكلهم من خلال الوسائل السلمية التقليدية.
حالة الولايات المتحدة
استخدمت الكاتبة المتغيرات السابقة للقياس على الحالة الأمريكية، وبيان مدى قرب بلادها من حرب أهلية لاسيما في عهد الرئيس السابق ترامب والذي وصفته بـ”أكبر رجل أعمال عرقي على الإطلاق”، وتوصلت إلى ما يلي:
أولًا: أصبحت الولايات المتحدة دولة “أنوقراطية” لأول مرة منذ عام 1800م، وفقاً لمقياس “مشروع بوليتي” – وهو مؤشر يقيس نظام الحكم لحوالي 167 دولة وفقاً لدرجات سنوية تقيس الفترات التي تمر بها الدولة من وجود فصائل، وأحداث تغيير النظام السياسي المهمة، والثورة، والانقلابات العسكرية الناجحة، وغيرها – حيث شرع ترامب في توسيع سلطاته، بالإضافة إلى الكشف عن حملة ممنهجة على الإنترنت قام بها عملاء روس للتدخل في الانتخابات الرئاسية 2016، وزرع عدم الثقة في الانتخابات من خلال تقويض التصويت عن طريق البريد.
ثانياً: في عام 2016، تراجعت الولايات المتحدة إلى مستوى 3، ضمن منطقة الخطر في مقياس “الشقاق”، لاسيما أن سياسة ترامب قائمة على تشجيع الفصائل العرقية والدينية، من خلال تركيزه على مظالم الطبقة العاملة من المسيحيين الإنجيليين البيض، كما يتضح من شعاره “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. وقد زادت الجماعات اليمينية العنيفة في عهد ترامب.
ثالثاً: دفع استياء البيض من مكاسب السود في عهد الرئيس السابق أوباما والشعور بـ”خفض التصنيف” إلى اختيار ترامب عام 2016. كما كشفت عملية اقتحام مبنى الكابيتول 2021 عن أن المواطنين البيض اليمينين ليسوا فقط مستائين من وضعهم، لكنهم يعتقدون أن النظام الحالي ضدهم.
رابعاً: فقد اليمينيون المتطرفون الأمل في إحراز تقدم من خلال الوسائل السلمية كالمسيرات وانتخاب السياسيين اليمينيين، لذلك تعجلوا التغيير اعتماداً على العنف، هادفين إلى التطهير العرقي، فتشكلت مجموعات مثل Atomwaffen Division (AWD).
خامساً: تخلق وسائل التواصل الاجتماعي سبيلاً يمكن من خلاله لأعداء الديمقراطية التسلل بسهولة إلى المجتمع وزعزعة استقراره من الداخل. وقد لعب فيس بوك وتويتر دوراً في تأجيج الانقسام بالولايات المتحدة والترويج إلى المعلومات المضللة والدعاية للفصائل المتناحرة.
ورسمت الكاتبة سيناريو افتراضي تشاؤمي يُنذر بالحرب الأهلية الأمريكية 2028، تضمن انفجارات وأعمال عنف واغتيالات، لكنها في الوقت نفسه استبعدت احتمالية حدوثه نظراً لقوة الدولة الأمريكية واستمرار النزعة اليسارية لدى البعض.
وتختم والتر الكتاب بأن الولايات المتحدة قد تكون محظوظة بأن “أول رئيس سلطوي حديث لها لم يكن ذكياً، ولا يتمتع بالخبرة السياسية”، ولكن على البلاد العمل على تحييد التمرد الناشئ من خلال إصلاح الحكومة المتدهورة عبر تعزيز سيادة القانون، ومساءلة الحكومة والقضاء على الفساد وتجديد الالتزام بتوفير احتياجات المواطنين الأكثر ضعفاً، وفرض قوانين انتخابية فيدرالية، وإعادة فحص المجتمع الانتخابي، وتنظيم جميع أنواع الصناعات كالمرافق وشركات الأدوية ومصانع معالجة الأغذية لتعزيز الصالح العام. وأخيراً من الأهمية بمكان، إضافة منصات تواصل اجتماعي بديلة وضمان عدم إساءة استخدامها.
المصدر/ المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
This post is also available in: English (الإنجليزية)