الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
منذ الحرب الكورية، مرورًا بحرب فيتنام، ووصولًا إلى الحرب ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، كان القادة الأمريكيون إما غامضين بشأن أهدافهم النهائية من الحرب، أو غير مستعدين لتكريس الموارد اللازمة لتحقيق أهدافهم بالفعل.
وقد دفع ذلك المؤرخ العسكري الأمريكي “دونالد ستوكر”، وهو بروفيسور في كلية الدراسات العليا للبحرية الأمريكية، وألّف حوالي أحد عشر كتابًا حول التاريخ والنظريات العسكرية بما في ذلك سيرة الجنرال “كلاوزفيتز”، إلى تقديم رؤية تحليلية نقدية لمفهوم “الحرب المحدودة” وللحروب الأمريكية منذ الحرب الكورية وإلى وقتنا هذا، في كتابه الذي صدر مؤخرًا (في أغسطس 2019) بعنوان “لماذا تخسر أمريكا الحروب: الحرب المحدودة والاستراتيجية الأمريكية من الحرب الكورية إلى الوقت الحاضر”.
في هذا الكتاب، يُطبق “ستوكر” النظرية الاستراتيجية على طريقة الحرب الأمريكية الحديثة، ويُحلل أسباب فشلها في تحقيق نصر حاسم في أيٍّ منها. ويقوم بإعادة هيكلة مفهوم “الحرب المحدودة”، ثم يقدم تحليلًا تاريخيًّا لكيفية إساءة فهم قادة الولايات المتحدة لدورهم في تشكيل الاستراتيجية. ثم يقدم تحذيرات بشأن مستقبل المنافسة مع القوى الكبرى. لذلك اعتبر بعض المحللين أن قراءة كتاب “ستوكر” فرض، ليس على طلاب التاريخ العسكري والدبلوماسي فقط، ولكن على القادة السياسيين والعسكريين، وأولئك المُكلَّفين بتطوير سياسة الأمن القومي الأمريكي.
يبدأ “ستوكر” بتفكيك التعريف الشائع (أو غير الواضح) لمفهوم “الحرب المحدودة”، ومن خلال هذا التفكيك يقوم بإعادة بنائه مرة أخرى، وفق أسس عملية واستراتيجية واضحة.
فقد أصبح من الشائع استخدام مصطلح “الحرب المحدودة” في العديد من الظروف، بحيث بات يُنظر إليه على أنه مرحلة وُسطى بين الحروب التقليدية والحروب العالمية. ليس هذا فحسب، بل بات يتم تعريف هذا المصطلح استنادًا إلى مقارنته بمصطلح آخر مضاد له، وهو “الحرب الشاملة”. ومن هنا أصبح التعريف الشائع لـ”الحرب المحدودة” هي تلك الحرب التي تستخدم فيها الدولة جزءًا مُحدودًا من الموارد المخصصة للمجهود الحربي.
هناك العديد من الانتقادات التي تجعل هذا التعريف غير دقيق. ولكن أبرزها أنه لا توجد دولة لديها -أو حتى تستطيع- تحويل كافة مواردها نحو أي جهد حربي، حتى في حالة الحرب العالمية الثانية، احتفظت الولايات المتحدة بالموارد الكافية لإطعام سكانها، ولم يشارك كل مواطن في المجهود الحربي. حتى الصين، بما تمتلكه من مورد بشري عظيم لا يمكنها استغلال كافة مواردها لشن حرب استنزاف طويلة الأجل، ولا يمكن ذلك لأي دولة أخرى.
إذن، لا يمكن تعريف الحرب المحدودة وفقًا لقدر الوسائل والموارد المُستخدمة في الحرب. وإنما يجب تعريفها وفقًا للغايات، وبتعبير أدق، وفقًا للأهداف السياسية المُراد تحقيقها. وهذا ما أكده المفكر البروسي “كلاوزفيتز” قبل حوالي قرنين من الزمن، الذي اعتقد أن الحرب يجب أن تُحددها الأهداف السياسية المطلوبة وليس مستوى الموارد المستخدمة لتحقيق ذلك. وبالنسبة إلى “كلاوزفيتز” فالحرب نوعان:
1. الحرب التي تهدف إلى الإطاحة بالنظام السياسي للعدو، وذلك لجعله عاجزًا سياسيًّا أو عاجزًا عسكريًّا، وهي غالبًا ما تكون “حربًا غير محدودة”.
2. الحرب التي تهدف إلى نتيجة سياسية أقل من تغيير النظام، كإخضاع العدو لسياسات معينة، أو إجباره على توقيع اتفاقية سلام بشروط محددة. وذلك عن طريق تدمير القوات العسكرية للعدو أو احتلال أو غزو جزء من أراضيه بشكل مؤقت. وهذا ما يطلق عليه “الحرب المحدودة”.
هذه التعريفات تثير تساؤلات حول تصنيف -وبالتالي سلوك- العديد من الحروب الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي أُطلق على معظمها -إن لم يكن جميعها- مصطلح الحرب المحدودة. فخلال الحرب الكورية سعت واشنطن -في بعض الأحيان- للإطاحة بنظام كوريا الشمالية. وفي أفغانستان والعراق سعت بشكل واضح إلى إسقاط الأنظمة.
ولكن عند الحديث عن حرب فيتنام، يشير “ستوكر” إلى نقطة جوهرية، وهي أن طبيعة الحرب الواحدة قد تختلف بين طرفي الحرب. ففي فيتنام، سعت الولايات المتحدة -في البداية- إلى هدف محدود ضد فيتنام الشمالية، وهو الحفاظ على استقرار النظام الفيتنامي الجنوبي. بينما سعى الفيتناميون الشماليون إلى تحقيق هدف سياسي غير محدود ضد الجنوب، وهو الإطاحة بنظامهم، لكنهم سعوا إلى هدف محدود ضد الولايات المتحدة، وهو طردهم من أراضي فيتنام الجنوبية. ويشير “ستوكر” إلى أن طبيعة الأهداف في الحرب الواحدة قد تتغير مع مرور الوقت، كما حدث مع الولايات المتحدة، التي سعت في مراحل متقدمة من الحرب إلى الإطاحة بنظام فيتنام الشمالية.
وفي حين لا يرى كثيرون من غير الأكاديميين قيمة تُذكر لهذا التحليل الشامل لمفهوم “الحرب المحدودة”، يرى “ستوكر” أنه حيوي للممارسين وصانعي السياسات؛ لأن المفاهيم الخاطئة المحيطة بمصطلح “الحرب المحدودة” دفع ببعض صنّاع السياسة إلى الاعتقاد بأن الأهداف السياسية المعقدة يمكن تحقيقها بثمن بخس من الوسائل العسكرية.
فعلى سبيل المثال، في كل تطور جديد للأزمة الإيرانية، يجري الحديث عن شن ضربات عسكرية محدودة ضد طهران. وليس من الواضح ما هو الهدف الذي ستُحققه هذه العملية، على الرغم من أن البعض يأمل في أن تردع هذه الضربات إيران عن العدوان في المستقبل. ولكن من المؤكد أن هذه الاستراتيجية ستكون غير حاسمة، ومن المُرجح أن تُصاعِد الأعمال القتالية فقط، ولن تحقق الهدف المنشود.
يتناول “ستوكر” في أجزاء من مؤلفه طبيعة التفاعلات بين القادة المدنيين والضباط العسكريين. فيشير إلى أنه -في أغلب الأحيان- يطلب المدنيون خيارات عسكرية ضد بلدٍ ما، بينما يطلب الضباط العسكريون تحديد الهدف السياسي من وراء الحرب، وغالبًا ما يُخفق السياسيون في تحديد هذه الأهداف أو إيصالها للجيش بوضوح. وهو ما يسمح في كثير من الأوقات للقادة العسكريين بتوسيع الأهداف السياسية إلى طموحات غامضة بعد فترة طويلة من تحقيق الأهداف الأولية.
فعلى سبيل المثال، بعد عام 2003، تحول العراق من هدف سياسي “غير محدود” لتغيير النظام، إلى “هدف محدود” غير واضح المعالم وغير مُحدد زمنيًّا وهو الحفاظ على النظام المدعوم من الغرب. لكن الكاتب يرى أنه كان من المفترض أن تُحدَّد نقطة نهاية غزو العراق قبل أن يبدأ من الأساس.
This post is also available in: English (الإنجليزية)