الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
لا شيء يدوم إلى الأبد، كذلك الأيديولوجيات لها أعمار محددة وأطوار متعاقبة. قد يظن البعض أن أيديولوجيا ما سوف تحكم كل البشر إلى الأبد، بل قد تزيد السذاجة بأن يظن آخر أنه لن يكون هناك أيديولوجيا جديدة بعد ذلك. لقد أعلن في السابق فوكوياما عن “نهاية التاريخ” وأنه لن يكون هناك أيديولوجيا جديدة بعد الليبرالية. ثم ظهر له أنه أخطا التقدير كما أخطأ معه جمعٌ كبير من المفكرين.
نظام يتآكل
الكتاب الذي نتناوله هنا يبين لنا أن نهاية الليبرالية في الأفق، كما يُوضح أن النظام الليبرالي يتآكل ويتلاشى من داخله، لأسباب نظرية وعملية لا يمكن إصلاحها مرة أخرى بحسب الكتاب. قد يستمر هذا الانهيار بالليبرالية سنوات طويلة لكن نهاية هذا النظام حتمية كما هو حال كل الأيديولوجيات التي نشأت ثم اندثرت في الماضي. كتاب باتريك دنيين صُنف بأنه من أفضل كتب العلوم السياسية في عام 2018 كما تم إصدار النسخة الثانية منه خلال شهور. الكتاب يحتوي على سبعة فصول إضافة إلى المقدمة والخاتمة.
في مقدمته “نهاية الليبرالية” يجادل الكاتب بأن الليبرالية فشلت ليس بسبب عدم قدرتها على تحقيق مبتغاها بل لأنها نجحت واكتملت دورتها في الماضي وبالتالي يتبع النجاح السقوط الحتمي. يتعرض الكاتب في المقدمة لنقد لاذع ومُعمق لليبرالية فهو يصرح أنها أيديولوجيا خبيثة كونها تدعي الحيادية، وإنكارها بأنها تنوي التأثير في طبيعة وروح المؤسسات التي تحكمها. أيضا وبحسب الكاتب فإن الليبرالية تقدم نفسها على أنها غير مرئية مثل نظام تشغيل الحاسوب، حيث أنها تبقى تعمل بشكل غير مرئي حتى يصيبها عُطب.
يتخذ دنيين موقفًا صارمًا ضد الليبرالية فهو يؤكد على أن محاولة إصلاح الليبرالية باستخدام إجراءات وأساليب ليبرالية كمثل وضع الغاز على نار مُلتهبة، حيث أن ذلك سوف يؤدي إلى تعميق الأزمات السياسية والاقتصادية وحتى الأخلاقية. الحل للتخلص من الليبرالية والأزمات التي تُصيب المجتمعات الليبرالية بحسب الكاتب هو التحرر والتخلص من الليبرالية بشكل تام وكامل.
فهم مختلف للحرية
في الفصل الأول المعنون بـ “الليبرالية غير المستدامة” يؤكد دنيين أن الليبرالية لم تكن أول من يكتشف التشوق للحرية والتحرر، فالشوق لنيل الحرية والتحرر من الظُلم يتقدمان زمانا على وجود الليبرالية كأيديولوجيا. لكن بالسابق كان هناك إيمان بأن الحرية هي شرط للحكم الذاتي وتقويض الاستبداد ليس فقط على المستوى السياسي بل على مستوى الروح الفردية. وبالتالي كانت الحرية تعني الانضباط الذاتي وضبط النفس عن الشهوات إضافة إلى الترتيبات الاجتماعية والسياسية التي تثبت وتعزز الفضائل وتعزيز فنون الحكم الذاتي.
الليبرالية وبحسب الكاتب ترفض هذا الفهم للحرية، حيث أنها تقدم فهمًا مختلفا لذلك، فمثلا الليبرالية تتطلب التحرر من كل أشكال العلاقات الاجتماعية والسياسية من العائلة إلى الكنسية ومن المدرسة إلى القرية والمجتمع وذلك لأجل التحرر من المعايير والأخلاق التي تقيد السلوك وتضبط معايير العمل.
في الفصل الثاني “توحيد النزعة الفردية مع سيطرة الدولة” يبين الكاتب أن النزعة الفردية وسيطرة الدولة يتقدمان على قدم وساق كما وأنهما يتبادلان المساندة. وفقا للكاتب فإن ازدياد النزعة الفردية وسيطرة الدولة يزيد من تلاشي دور المؤسسات الوطنية بل يؤدي إلى تلاشي الحدود الطبيعية للأخلاق والسلوك بين الأفراد. يَدعي الكاتب أن أحد أهم وظائف الدول الليبرالية هي تحرير الفرد من أي قيود أو شروط، وبالتالي تكريس النزعة الفردانية وزيادة قدرة الدولة على الهيمنة على الأفراد.
ثقافة مضادة
وفي الفصل التالي “الليبرالية كثقافة مضادّة” يؤكد دنيين على أن الليبرالية ترتكز على التضاد مع الثقافات، فالشيء الوحيد الذي ننتمي كلنا له هو السوق الدولي. فالكل يُعرف على أساس الاستهلاك وليس المكان والثقافة وغيرها من المعايير. وعلى عكس الفكر الليبرالي يؤكد الكاتب على أهمية وجود ثقافة للأفراد لضبط السلوك الفردي والتلاحم المُجتمعي، فهو أيضا يذكرنا بخطر الليبرالية بهذا الصدد حيث أنها ترى في الثقافات مجرد ضوابط وتقييدات للحريات الشخصية يجب التخلص منها بشكل كامل حسب الليبرالية.
يُوضح الكاتب في الفصل الرابع “التكنولوجيا وفقدان الحرية” مخاطر التكنولوجيا على الأفراد والمجتمعات فبدلا من أن تكون التكنولوجيا أداة للتحرر والحرية، أصبحت خطرًا يهددنا، حيث أنها تُسيطر علينا وليس نحن من يُسيطر عليها. إضافة إلى ذلك تُقوض التكنولوجيا المُجتمع والتماسك الاجتماعي بل وتجعلنا أكثر فردانية. لذلك يَخلص دنيين إلى أن التكنولوجيا تُقلل من حرية الأفراد بشكل مؤكد.
في الفصل التالي “الليبرالية ضد الفنون الحرة” يُصرح الكاتب أن الليبرالية تُقلل من قيمة التعليم الليبرالي عن طريق فك الارتباط بين المشروع التعليمي والثقافة، بل وتجعل من التعليم وسيلة ضد الثقافات. فالأساس أن سعي وغاية التعليم والفنون الحرة هو حكم الذات وضبطها بالمعايير الأخلاقية لكن وبحسب الكاتب فإن حكم الذات والانضباط الأخلاقي لا يتوافقان مع غاية التعليم الليبرالي المعاصر. فالليبرالية تزيل القيود الذاتية والمعايير الأخلاقية بالتعامل بين الافراد ضمن المشروع التعليمي الليبرالي، لذا وبحسب المُؤلف فإن هناك حاجة إلى انقاذ التعليم الليبرالي من الليبرالية نفسها.
“الأرستقراطية الجديدة” عنوان الفصل السادس، يبين الكاتب أن النظام التعليمي المعاصر تحول لأداة تخدم الليبرالية لخلق طبقة ارستقراطية جديدة، ويزعم دنيين أن المجتمع الأمريكي شُكل على أساس أن يستفيد الكثير من المواطنين من النظام والمؤسسات والخدمات إلا أنه بالوقت الراهن أصبح النظام الأمريكي يتكون على أساس أن يستفيد عدد قليل ومحدود جدا من المواطنين وهم الأرستقراطيين الجدد. بالفصل التالي “تدهور المواطنة” يبين الكاتب كيف أن الليبراليين يربطون اسمهم بالنظام الديمقراطي. فـ “الديمقراطية الليبرالية” تُوصف بالغرب على أنها تقريبا النظام الشرعي الوحيد. وبالتالي وبحسب الكاتب فإن الديمقراطية تكون مقبولة كنظام طالما أن ممارستها ضمن فرضيات ومفاهيم وأطر الليبرالية.
يؤكد دنيين أن المواطن في النظام الليبرالي يجد نفسه عاجزًا أمام التحديات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، حيث النظام نفسه يهدف إلى جعل المواطنين ذوي نزعة فردية عالية وبالتالي هم غير قادرين على تغيير الواقع المحيط بهم، وهذا معاكس تماما للديمقراطية.
في الخاتمة “الحرية بعد الليبرالية” يؤكد المؤلف على تزايد عدم الرضى عن النظام الليبرالي، فالاختلال على المستوى السياسي، التفاوت الاقتصادي، سيطرة التكنولوجيا، التمزق الاجتماعي وتزايد النزعة الفردية وغياب الشعور بالألفة وغيرها من المشاكل بحسب الكاتب سوف تتفاقم بالمجتمعات الغربية. بناءً على ذلك فإن نهاية الليبرالية في الأفق ومسألة وقت لا غير بحسب الكاتب. لذلك فهو يؤكد أن المشكلة ليست في برنامج أو ممارسة الليبرالية بل بالنظام الليبرالي نفسه.
في الختام يضع دنيين ثلاث خطوات عامة للتعامل مع النظام المستقبلي الجديد وهي كالتالي:
أولا: يجب الاعتراف بإنجازات الليبرالية وعدم الرجوع إلى ما قبل الليبرالية، وبالتالي التقدم إلى الأمام فقط وعدم العودة إلى الوراء.
ثانيا: يجب التركيز على تطوير ممارسة وصيغة جديدة للثقافة، الأسرة، والنظام الاقتصادي والسياسة بعيدا عن الأيدولوجيات الليبرالية والماركسية وغيرها من الأيديولوجيات.
ثالثا: قد يظهر بناء على الخطوتين السابقتين نظريات أفضل على المستوى السياسي والاجتماعي، هذه النظريات يجب أن تتجنب المنظور الأيديولوجي الليبرالي تماما، كما أنها يجب أن تعكس التراث الغربي المسيحي وخصوصًا التراث المسيحي بالعصور القديمة. تجدر الإشارة إلى أن النقاشات والأسس الفكرية والفلسفية التي بَنى عليها دنيين أطروحته هي أسسٌ كاثوليكية جدلية مناهضة للحداثة.
فهو يرجو العودة إلى القيم الكاثوليكية المسيحية كتكريس دور الأسرة بالمجتمع وغيرها من القيم. فهو يذكرنا أن منظري الليبرالية بنوا فكرهم على الفكر التراثي الغربي المسيحي، فهو يبين مثلا كيف أن مهندسي الليبرالية اعتنقوا لغة ومصطلحات الديانة المسيحية القديمة لكنهم أسقطوا عليها معاني وتطبيقات جديدة معاكسة للمعاني الأصلية. لذا فهو يَدعو إلى العودة لفهم عميق وصحيح للقيم المسيحية القديمة لتطبيقها بشكل أكثر ملاءمة مع أصلها.
على الرغم من ذلك، فإن الكتاب موضوعي وثاقب بنقده الصارم والحاد لليبرالية، فالنقاشات المطروحة ليست مجرد أفكار نظرية مجردة فحسب بل وعملية تتعرض لتبين مخاطر تطبيقات الفكر الليبرالي على أرض الواقع.
لكن تبقى المعضلة الكبرى في هذا الكتاب بعدم وضع بديل لليبرالية، فرغم دعوة الكاتب للعودة إلى القيم الأوروبية القديمة يحتاج هذا الموضوع لاقتراح أسس أكثر تفصيلا من مجرد الثلاث نقاط التي ذكرناها. يبقى أن نقول إن كتاب دينيين كتاب مُهم للغاية لطلاب وأساتذة العلاقات الدولية والنظريات السياسية، مع الحاجة الماسة في السياق العربي والإسلامي لتطوير فكر ناقد لليبرالية لكن من منظور عربي وإسلامي.
فادي الزعتري/ عربي 21
This post is also available in: English (الإنجليزية)