الوصف
مقدمة ابن خلدون
لا أزال في ترتيب أولوياتي للكتب التي أقرأ أتبع نصيحة قرأتها ذات مرة في مذكرات أحمد أمين حينما سأله أحد أبنائه عمَّا يقرأ ولمن يقرأ، فرد عليه بأن ينتهي أولا من الكتب التي أجمعت الأجيال على أهميتها وخلَّدها تاريخ الفكر البشري.
وعملا بهذه النصيحة أعرض اليوم واحدا من هذه الكتب التي حظيت بتقدير مؤرخي الأفكار والعلوم في العالم وهو مقدمة كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر” لعبد الرحمن بن خلدون، والتي اشتهرت بـ “مقدمة ابن خلدون” (ت ١٤٠٦م).
وضع ابن خلدون في هذه المقدمة، وقبل أن يشرع في تأليف كتابه الذي خصه للتأريخ، عصارة فكره وخلاصة نظراته وتأملاته وتجاربه في الحياة، وآرائه في التاريخ وكيف يُكتب، والدول وكيف تنشأ وتسقط، والعمران وكيف يزدهر ويخرب، ولم يترك في جعبته من علم وثقافة إلا اعتصرهما عصرا وقدمهما إلينا في هذه المقدمة رحيقا مختوما.
تحدث عن الدين والصناعة والبداوة والحِضارة والحكم والعصبية والخلافة واللغة والشعر والموسيقى والعادات والتقاليد والعصبية والفتنة الكبرى بين الصحابة وأخطاء المؤرخين وتأثير المناخ على الطبائع والأذواق إلى آخره، وهو في كل ذلك لا يقدم وصفا فقط وإنما يسوقه في إطار تحليلي تفسيري فلسفي يستخلص منه الديناميات الكامنة فيه ويضع يده على الكليات التي تشتمل ثوابته وتتحكم في مساراته ومتغيراته.
ويعجب القارئ لما أوتي هذا الرجل من ذكاء وقدرة على الربط بين المتشابهات والإتيان بنماذج تفسيرية حينما تعيد قراءة الأحداث من خلالها تجد نفسك أكثر فهما وأعمق إدراكا مما لو كنت قد قرأتها على يد غيره ممن اكتفوا بسرد ما ظهر أمامهم على السطح.
فالمنهج إذن، في تصوري، هو سر عظمة مقدمة ابن خلدون، وهو سبب تفردها وشهرتها. ولا غرو حينما يستعمل عقل كبير كعقل مفكرنا ابن خلدون هذا المنهج أن يأتي بجديد لم يسبقه إليه غيره، وقد تمثل هذا الجديد فيما يمكن تسميته بمصلحاتنا الحديثة بفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وأنثروبولوجيا المعرفة.
استفاد ابن خلدون من حياته الوظيفية في بلاط الملوك والتي أتاحت له فرصة التنقل بين الأمصار ومخالطة الشعوب والتعرف إلى مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية ومعاصرة نشأة الممالك وزوالها والاكتواء بلظى الحقودين والغيورين وإقبال الدنيا وإدبارها… استفاد من هذا كله تعميقا في النظر وتلمسا لجوهر الحياة بعيدا عن الزائف الذي يخدع البصر، وحينما جلس للتأليف في أحد المنازل الهادئة التي هيأها له أصدقاؤه من وجهاء “بني عريف” في وهران بالجزائر أنجز كتابه في أربع سنوات ثم عاد بعدها إلى دوامة الحياة فكان وقتا مستقطعا من عمر الزمن أفاد به مَن بعده وخلَّد ذكراه.
* محمد عبد العاطي
مقدمة ابن خلدون
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية