الوصف
من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر
ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذا العصر، هي “أسئلة هذا الزمان” التي لم تلق بعد إجابات شافية، وذلك في ظل إبداع غائب، وفلسفة منقولة بأدوات ومناهج غريبة، وفضاء فكري تسيطر عليه حالة من الضبابية، صنعها التقليد الأعمى لكل ما هو غربي.
ووسط ذلك كله، يقف التراث العربي الإسلامي بعيدًا عن هذا الفضاء الذي راح ينهل من التراث اليوناني، قاطعًا الصلة بتراثه الأصيل، ومعارضًا لقيمه الرفيعة، التي كان من الممكن أن تبدع فلسفة عربية إسلامية خاصة.
وفي هذا الصدد، شكلّت قضية “الإبداع” محورًا مهمًا في المشروع الفكري للفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، والتي طالما أكد عليها في غير كتاب، لذلك جاء مشروعه مبدعًا وخالصًا من شبهة التقليد، ليكون بذلك المثل والقدوة لغيره من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين.
“من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر”.. هو عنوان الكتاب الذي أعده الدكتور رضوان مرحوم، وجمع فيه محاضرتين ووريقات للدكتور عبد الرحمن، فجاء بمثابة دعوة إلى الإبداع وتأسيس نظرية عربية إسلامية خالصة، موصولة بالتراث الأصيل، ومبنية على قيم الدين الحنيف.
يبدأ الكتاب بتقديم للدكتور “مرحوم” يُثنى فيه على المجهود الكبير الذي يقوم به عبد الرحمن في سبيل الإجابة عن تساؤلات هذا الزمان، ووضع لبنات فلسفة إسلامية خالصة، فضلًا عن التحذير من مخاطر “الاستمرار في التقليد” من غير التوثّق من حقيقة ما يتم نقله من نظريات ومناهج.
ويؤكد د. “مرحوم” في تقديمه لهذه المحاضرات والوريقات التي يضمها ملحق الكتاب، أنها “تقدم لقارئها خارطة طريق، ومعالم رؤية غير مسبوقة، حتى ينفتح عقله على آفاق جديدة توسع من ممكنات نظره وآفاق خياله”.
كما يؤكد “مرحوم” أن العلامة المغربي خالف في طرحه ما اعتاده سابقوه من مفكري العرب، ممن وصفهم بـ”مقلدي الغرب الذين سجنوا قارئهم في أحكام جاهزة، بل ظالمة، لا دليل يسندها ولا منطق ينسقها ولا بيان يزينها ولا خيال يوسعها”.
ويتطرق “مرحوم” إلى أهمية هذه المحاضرات، موضحًا أنها “تسلط الضوء الكاشف على ما يحتاجه طلاب العلم من معالم طريق، لكي يقوموا بتجديد تكوينهم، ويتحملوا مسؤوليتهم بالإسهام في تقديم تصورات للإجابة عن الأسئلة الراهنة التي تشغل الأمة في هذا الزمان”.
إحياء الروح.. وتوسيع العقل
ينقسم الكتاب إلى فصلين، يمثل كل فصل منهما محاضرة منفصلة، تدور الأولى حول التأسيس الفلسفي لفقه التربية من منطلق إسلامي متأصل، وفيها يجيب عبد الرحمن على سؤال محدد، هو: “كيف نبني مشروعية ومعقولية النظرية التربوية الإسلامية؟ وما هي المبادئ التي تؤسس القول الفلسفي الإسلامي في التربية تأسيسًا فلسفيًا؟”.
ويؤكد فيلسوفنا أهمية التأسيس الفلسفي للنظرية التربوية الإسلامية، باعتبار أنه “يتم من داخل الدين، وبتوسط التراث التربوي للمسلمين، مع مراعاة المقصد التربوي للفلسفة”، موضحا أن هذا “التأسيس” يُبنى على خمسة مبادئ عُليا.
المبدأ الأول، يقضي بأن يكون المقوم التربوي المأصول عنصرًا يتمتع بالثبات والاستقلال والحياة والإبداع، فيما يقضي المبدأ الثاني بأن تكون النظرية التربوية الإسلامية تأصيلاً إيمانيًا للخطاب التربوي يعترض على كل منقول تربوي حتى تثبت صلته بالحقيقة الدينية، على أن يتدارك النسيان الذي لحق بعض المفاهيم التربوية الاسلامية والتحريفات التي دخلت على بعضها الآخر.
أما المبدأ الثالث فيوجب أن تنهض النظرية التربوية الإسلامية بتجديد كلية الإنسان في المتعلم، وذلك بأن تُخرجه من وصف “الإنسان الأبتر” إلى وصف “الإنسان الكوثر”، مبينًا أن الأخير “يتدفق الإيمان في كل أدواره، كما يخرج إبداعه من وصف الإبداع المصوّر إلى وصف الإبداع المثّور الذي يتوق إلى تحقيق الكمال في الأعمال”.
وأما المبدأ الرابع، فيقرر أن تجديد الإنسان إنما يقوم في العمل على إحياء الروح، أو القلب، باعتباره محلاً لها، فهو مصدر كل الأفعال، والأحوال، والقدرات، التي يتجلى بها الإنسان.
ويقرر المبدأ الخامس، والأخير، أن “إحياء الروح” إنما يقوم في أمرين، أحدهما توسيع العقل، وذلك بترويض المتعلم على أن يتعامل مع كل ظاهرة على أنها آية يحمل باطنها سرًا أو أكثر من أسرار الوجود، فضلاً عن انضباط ظاهرها بقانون أو أكثر من القوانين الكونية فيورثه هذا التعامل المزدوج مع الأشياء حب الإيمان الدفاق الذي ينفذ مدده إلى جميع أفكاره وأعماله، فيستطيع أن يتقلب في أدوار لا يتقلب فيها غيره.
والآمر الآخر المطلوب لـ”إحياء الروح” هو تثبيت الإرادة، وذلك بترويض المتعلم على أن يتعامل مع كل فعل على أنه خلق ظاهر يُزينه، وباطن يؤسسه، فيورثه هذا التعامل المزدوج مع الأفعال حب العمل التوّاق إلى بلوغ الكمال فيقدر على أن يبدع من حيث لا يبدع غيره.
ولابد للنظرية التربوية الإسلامية – كما يرى عبد الرحمن- من البدء بمرحلة التقويم، حتى توطد أقدامها، وتكتسب المشروعية الدينية، لوجودها، والشرعية العقلية لبنائها. والمقصود بـ”التقويم” هنا هو النظر في الخطاب التربوي السائد، خصوصًا الحداثي منه، فتمارس هذه النظرية نقدها الأخلاقي والإيماني بل الائتماني على أصوله ومسلماته، من أجل تقويم وإصلاح الخلل وتصحيح إرادته.
ويؤكد عبد الرحمن في هذه المحاضرة أن “الذين يستحقون أن يتولوا التأسيس الفلسفي للتربية الإسلامية هم أهل العقل الواسع”، وهو يقصد بهم أهل العقل الموصول بالشرع والمُسدد بمقاصده.
و”العقل الواسع”، في فكر عبد الرحمن، هو “عقل يسلّم بأنه ليس في إمكانه الاستقلال بإدراك حقائق الغيب، وعالم الملكوت، فيستمد أصولها من الوحي المنزل، ويلقي سمعه إلى آي القرآن، ما يسمح له بتجاوز النظر الملكي الذي يقف به عند حدود الظواهر إلى نظر ملكوتي يستشف معنى الآيات والحكم التي ينطوي عليها أحداث هذه الظواهر”.
وبالإضافة إلى حكمة القرآن، تستمد النظرية التربوية الإسلامية أصولها من الأصل المعرفي الذي يميز المجال التداولي الإسلامي، والذي هو نتاج تفاعل اللغة والعقيدة في عقل العالم المسلم العربي.
فلسفة أخلاقية إسلامية
في المحاضرة الثانية، التي يضمها الفصل الثاني من الكتاب، يؤكد العلاّمة المغربي أن نقده الأخلاقي للواقع العالمي أوصله في طوره الأول إلى بلورة مفاهيم فلسفية إسلامية، عديدة في سياقات “تأثيلية، وتمثيلية، وتخييلية”، خاصة بالمجال التداولي الإسلامي العربي.
كما توصل عبد الرحمن، في الطور الثاني من هذا النقد الأخلاقي للواقع العالمي، إلى وضع أصول فلسفة مستقلة، حرص فيها على أن تكون فلسفة أخلاقية إسلامية بحق، أطلق عليها اسم “الفلسفة الائتمانية”.
وهذه الفلسفة الائتمانية التي أبدعها عبد الرحمن تُبنى على مبادئ ثلاثة، وهي “مبدأ الشهادة” التي تتحدد بالهوية الوجودية للإنسان و”مبدأ الأمانة” التي تتحدد به مسؤوليته الكونية، و”مبدأ التزكية” وبه تتحدد فاعليته السلوكية.
وفي هذا الفصل الذي خصصه عبد الرحمن لعرض النتائج المتعلقة بالتنظير العلمي لفقه الفلسفة والطرق التي يمكن من خلالها إنشاء فلسفة إسلامية حية، يؤكد أن أهل الاشتغال بالفلسفة من مثقفي الأمة ليس بمقدورهم تحصيل القدرة على إبداع فلسفي مستقل ما لم يتعاطوا بكل ما أوتوا من وسائل تأسيس علم الفلسفة بفرعيه.
الفرع الأول وهو “فهم الفلسفة” وهو علم ينظر في سياقات إنتاج الفيلسوف لأقواله وأفعاله بهدف التوصل إلى بيان مضامين هذه الأقوال، والأفعال، والثاني فرع “فقه الفلسفة”، وهو علم ينظر في آليات إنتاج الفيلسوف لأقواله وأفعاله بهدف التوصل إلى كشف بنيات هذه الأقوال والأفعال.
ويوضح الأكاديمي المغربي أن هذه الآليات تشمل “الترجمة”، نقلاً، وتحويلاً، و”المفهوم”، اصطلاحًا، وتأثيلاً، و”التعريف”، تقريرًا، وتمثيلاً، و”الدليل”، استنتاجًا، وتخييلاً، كما تشمل هذه الآليات “السيرة”، نموذجًا وشذوذًا.
ويشدد الفيلسوف، في هذا الموقع من الكتاب، على أن فقيه الفلسفة بحكم توجهه العملي لا يشتغل بعلم الفلسفة لذاته، وإنما يدرك رتبة الفيلسوف المبدع، والمستقل، لذلك لا يقف عند حد استخراج هذه الآليات الفلسفية، بل يتعداه إلى استخدامها في وضع فلسفة فيها من الإبداع بقدر ما هي عليه من الاستقلال.
ويعود عبد الرحمن هنا إلى مشروعه الفكري، مؤكدًا أنه أخذ في كل أعماله هذه الآليات بقوة من أجل الانطلاق من نقد الواقع العالمي، بما فيه من “حداثة، وعولمة، وعلمانية، ودهرانية، وما بعد دهرانية”، من أجل إنشاء فلسفة أخلاقية إسلامية، بديلة عن الفلسفة غير الإسلامية التي تأسس عليها الواقع العالمي.
وهي فلسفة قادرة على التصدي لما يكتنف هذا الواقع من التحديات الخلقية والأزمات الروحية، فالمشروع الفكري للمفكر المغربي الكبير يرفض الانسلاخ من الأخلاق والتعارض مع الدين، وتغييب العقل، وتقديس النص.
وفي طريق المتفلسف نحو الإبداع، لابد أن يراعي هذا بعض الملاحظات التي يحددها عبد الرحمن في أربع ملاحظات مهمة: أولها أنه لا إبداع من غير أن يتخلص الباحث مما يسميه الفيلسوف “عقدة النقص”، محقرًا لنفسه ومعظمًا لغيره، فلابد له من استرجاع الثقة بذاته، وبقدرتها على استئناف العطاء مجددًا.
وهذه الملاحظة تعني أن يبتعد المتفلسف عن التقليد، وعن التهويل من الفلسفة الوافدة التي لطالما حذر منها عبد الرحمن في كتبه، داعيًا إلى إعطائها حجمها الحقيقي، فهي ليست منزهة وليست خالية من العيوب والآفات، ولا يجب ألا يشعر المتفلسف أمامها بـ”الضآلة”.
والملاحظة الثانية أنه لا إبداع من غير أن يبني الباحث أفكاره على مقتضيات المجال التداولي الذي يختص به، لأن هذه المقتضيات تحمل رؤية متميزة للإنسان، وممارسة خاصة للإيمان، بحيث يمكن أن يستنبط منها استشكالات واستدلالات لم يسبقه لها أحد، على أن تكون بمثابة “إسهامه الخاص في توسيع آفاق الثقافة الكونية”.
أما الملاحظة الثالثة التي يوردها عبد الرحمن فهي أنه لا إبداع من غير تجاوز الإحاطة بالمضامين المعرفية، والفكرية المنقولة، إلى التمكن من آليات الإنتاج التي وضعت بها هذه المضامين. ويؤكد فيلسوفنا هنا أن الأصل في المنقول هو النص. وهذا النص يكون إما مفاهيم، فتقتضي آليات “التأثيل”، وإما تعريفات، فتوجب آليات التمثيل، وإما استدلالات فتسلتزم آليات التخييل.
وآخر هذه الملاحظات الأربع، هي أنه لا إبداع من غير تحصيل القدرة على تصور البدائل، ما يوجب تنمية القوة الاعتراضية، على المنقول، والقوة التخييلية لدى الباحث في سبيل إنشاء نظرية تربوية إسلامية حقيقية.
من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر
لمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية