الوصف
إنّ الأحداث العالمية والإقليمية التي حدثت خلال العقدين الأخيرين قد شكلت ضغطًا عاليًا لدى فئة الشباب في مسيرته الطبيعية لتحديد هويته وانتمائه. فانتهاء الحرب الباردة واكتساح الليبرالية والعولمة الاقتصادية للعالم؛ كلها عوامل مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من التفرّد بالقوة. كما إن أحداث سبتمبر2001 التي أطلقت شعار الحرب الاستباقية التي بلغت ذروتها باحتلال العراق، كلّ هذه الأحداث أعادت من جديد قضية الهوية والانتماء والثقافة والمواطنة، كقضايا استراتيجية مصيرية تحمل في طيّاتها تحديات وصعوبات ومخاطر.
ففي ظل هذا الوضع انتعشت إيديولوجيا مناهضة للغرب والحداثة، تستعمل الدين كمحرك لتطوير صراع مع الغرب يخلط بين الاستعمار والحداثة، وبين السياسة والثقافة، وبين الحكام والشعوب. في حين أنّ الصراع الحقيقي هو ضد الهيمنة والتسلّط والإقصاء والاستعمار، وما تولده هذه الوضعيات من عنف نفسي وإحباطات. وكما يقع الخلط بسهولة بين الإسلام والإرهاب، كذلك يقع الخلط أيضًا بنفس السهولة بين الغرب والقوى الاستعمارية لبناء بيئة صراع حضارات.
إن الهيمنة الأمريكية غير المسبوقة وعودة الاستعمار المباشر لأراضٍ عربية وإسلامية، حرّكَا مجددًا مشاعر قومية ودينية وغذّيا ثقافة المقاومة، ودفع هذا الوضع الشباب المتميز برفضه للتسلط والإكراه، وبنزعته نحو التمرّد، إلى استبطان هموم الوطن، كما فهمها بقدراته الذاتية دون مصاحبة المثقف أو الفنان أو السياسي، بل بمصاحبة أبطال ونماذج من خارج الوطن وبمخيلة توسّعت لتشمل عالم افتراضي واسع فيه أجوبة صادفت هوى في رغبته الجامحة للتحرر وإثبات الذات.
يعيش الشباب هذه الأحداث العالمية المعقدة والخطيرة في تفاعل مع التحولات الاجتماعية الداخلية المتسمة بغياب فرص العمل، وضعف منظومة الحماية الاجتماعية الموجهة إليه، وعسر الحياة وتقلّص الحراك الاجتماعي الصاعد، واتساع دائرة التهميش، ومرارة الفجوة التكنولوجية والرقمية والمعرفية، مما يشجّع على الهجرة ويضعف الانتماء. في ظل هذه العوامل المغذية للاحتقان، وفي غياب خيارات مفضلة (عمل، زواج، أبناء، نجاح.) تبرز الخيارات الأسوأ خاصة لدى المهمشين فتخلق ردود أفعال سلبية (تأزم، قلق، اكتئاب، انتحار، هجرة، إجرام، انطواء.. إلخ.
ومع تزايد الضغوط الاقتصادية التي واجهتها دول المنطقة، وعدم التمكن من تلبية الاحتياجات الأساسية للشباب في مجالات التعليم والصحة والتكوين والتدريب والتشغيل والسكن والزواج، وبروز مظاهر من الانحراف القيمي والسلوكي لدى شرائح معينة منه، تحت تأثير الجوانب السلبية لثورة المعلومات والاتصالات وفي ظل العولمة وما يكتنفها من المتناقضات والتجاذبات والصراعات الحضارية، مع كل هذه العوامل وبسببها دخل الشباب في منطقتنا العربية في أزمة ذات أبعاد متعددة:
بعد سياسي مرده الشعور بالتهميش والإقصاء وعدم المشاركة في الحياة العامة.
بعد أمني مرده السقوط في براثن الجريمة المنظمة والتطرف بجميع أشكاله.
بعد اقتصادي مرده الفقر والحرمان وانعدام الفرص المتكافئة.
بعد اجتماعي مرده التفكك الأسري والتشرد والنزوع إلى تعاطي المخدرات وارتكاب الرذيلة..
بعد ثقافي مرده اضطراب منظومة القيم الثقافية والحضارية وتهميش الهوية.
وفي غياب الحل الأمثل لمشكلات الشباب بات حلم الهجرة إلى أوروبا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى؛ ولنا في ضحايا قوارب الموت من طلاب الهجرة غير الشرعية، وفي طوابير التأشيرة الممتدة أمام السفارات الأوروبية، أقوى دليل على هذا التوجه؛ بل وعلى عملية استنزاف العقول والسواعد الشبابية التي تتعرض لها الموارد البشرية في منطقتنا العربية.
وليت الأمر اقتصر على الهجرة وما يكتنفها من مغامرات وأخطار ولم يصل ببعض الشباب إلى حد اليأس المتمثل في أبشع صوره؛ ألا وهو إحراق الذات الذي عرفت بلداننا – للأسف – نماذج منه خلال الفترة الأخيرة، وتكررت محاولات منه بشكل مواكب للاضطرابات والاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة فيما سُمي «بالربيع العربي».
وفي هذه السياقات قد يصبح العنف الذاتي أو الخارجي خيارًا لإثبات الذات وتحقيق الخلاص الفردي كردّة فعل تعيد الاعتبار لمن شعر بالإهانة؛ نتيجة عنف نفسي مسلط عليه أو نتيجة أوضاع مزرية قضت على بقية مكونات «محفظة الخيارات المفضلة اجتماعيًا» بدءًا بالانضباط ووصولاً إلى الصبر.
تداهمنا هذه الأوضاع ونحن في مرحلة تحولنا الديمقراطي، في وقت أصبح فيه الشباب ثقلاً ديمغرافيًا وفاعلاً اجتماعيًا أساسيًا. كما تداهمنا أيضًا ونحن بصدد التقدّم نحو اقتصاد السوق «برأسمالية فقيرة»، واقتصاد تابع، ومجتمع لم يدخل عهد ما بعد الصناعة، وفجوة تزداد اتساعًا بيننا وبين العالم المتقدم. هذه الأوضاع تخلق تحديات حقيقة تهدد استقرار الدولة والنظام السياسي والتطور الطبيعي للمجتمع؛ ممّا ينذر بأخطار يصعب التحكم فيها إن لم نكن محصّنين بما فيه الكفاية، اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا وأمنيًا.
وإنّ الحزب الحاكم، مهمًا كانت قدرته التنظيمية والتعبوية والدعائيّة غير قادر بمفرده على مواجهة الأزمات المحتملة. وهو ما يستوجب مراجعة المنظومة السلطوية للحكم والتقدم دون تردد في إنجاز الإصلاحات السياسية بما تتطلبه من توسيع منظومة المشاركة والحريات، وتجديد المؤسسات، وبناء المقدرة التنظيمية، وإرساء منظومة علائقية تقوم على الاستقلالية والتعاون بين الدولة والمجتمع المدني. كما تتطلب إصلاحات اقتصادية تؤمن الشفافية والمساءلة، تُتعَزَز هذه الإصلاحات بالاستثمار الجيد في الشباب، والعمل معه والاستفادة من انفتاحه وطاقته الإبداعية والتجديدية؛ لتطوير مقدرتنا الجماعية وثقافتنا التنموية بما يسمح لنا أن نشارك بفعالية في العولمة، وأن نتأقلم ونستفيد ونصمد ونضمن للأجيال القادمة مكتسبات تساعدهم وتقوّيهم.
تأتي أهمية شريحة الشباب لأنهم المرتكز الأساسي لعملية التنمية، فهي تعد الشريحة الأكبر من حيث العدد في المجتمعات العربية، حيث توصف هذه المجتمعات بأنها مجتمعات فتية ذات هرم سكاني كبير القاعدة. فعلى الشباب يقع عاتق إنماء المجتمع وصناعة مستقبله، لذا لابد من التأكيد على مشاركتهم الفعالة في بناء المجتمع. فعندما تسود المشاركة المجتمعية فإن الديمقراطية سوف تُتعَزَز في المجتمع، لأن عملية المشاركة المجتمعية تعزز القدرة على تحمل المسئولية لدى الشباب، وتدفع إلى ثقافة تقوم على الحوار والعقلانية والثقة بالشباب.
لذا فإن التحدي الأكبر بالنسبة لجميع الدول هو كيفية الاستفادة من طاقة هذه الشريحة، وإدماجها في مسارات الحياة الاجتماعية والإنتاجية، ورغم أهمية هذه الفئة ووعي الحكومات بذلك، إلا أنها تعتبر من الفئات المجتمعية المهمشة، حيث لا توجد استراتيجيات وسياسات من أجل توظيف طاقات الشباب وتحقيق مشاركتهم في شئون المجتمع إن قلة المراكز الشبابية والجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تسمح للشباب بالمشاركة فيها، وقلة المشروعات التي تدعم الشباب وارتفاع معدلات البطالة… إلخ، تؤدي إلى هدر طاقات كبيرة وتجعل الشباب يقومون بالبحث عن وسائل تعويض غير متكافئة أو الاستسلام إلى التبلد والسلبية وإذا كان من غير الممكن تحقيق عملية التنمية دون الاستفادة من طاقات الفئات الشابة في المجتمع، والتأكيد على دعم هذه الفئات من أجل تحقيق مشاركتها في بناء المجتمع وتطوره؛ فإن الأمر يقتضي وضع تصور لتنمية الشباب يطرح ما يحتاجه المجتمع من الشباب، وما يحتاجه الشباب من المجتمع لقيادة التنمية.
وهنا يبرز شكل المدينة الأمثل في زمن الحداثة المعرفية: فضاء سلطوي عمومي يضاهيه فضاء مواطني غير عمومي، تربط بينهما شراكة قوامها الحرية والعدالة والاحتكام إلى القانون والمسئولية والتضامن وإعلاء الصالح العام على أي صالح خاص. إلا أن هذا التوليف لن يكون موفقًا؛ إذا لم يتسم بالمبادئ الديمقراطية وبالمواطنة والمسائلة والشفافية وبالعدالة إلى أعلى مرتبة في سلم القيم الحضارية للدولة الناجزة. إن هذا التأليف هو الذي يحتاجه التغيير في زماننا الحداثي المعرفي الجديد. وبالتالي يمثل في نظرنا بعدًا أساسيًا من أبعاد الرسالة المنوطة بالدولة في القرن الواحد والعشرين. فإذا لم تهتد الدولة إلى تأسيس الفضاء السلطوي والمواطني على جملة القواعد الحضارية تلك، فإنها لن تتمكن من قيادة التغيير الذي يتطلبه العصر الجديد.
وبما أن قضايا التشغيل والتكوين والدمج ومحاربة البطالة والتهميش والهجرة، تعتبر من أهم الإشكاليات التي تواجه شريحة الشباب، فإن كتابنا هذا يتعرض لها بالدراسة ليصل في النهاية لخطة شاملة لتنمية الشباب تعالج الأبعاد التي يعاني منها، في محاولة لاحتواء الشباب وإدماجهم في البنية المجتمعية كأعضاء فاعلة. خاصة وإننا ننطلق في خطتنا من منظور نظرية أنتوني جيدنز «A. Giddens» تشكيل البنية «Structuration Theory» فهذه النظرية تحاول إيجاد مساحة للفاعل الاجتماعي في عملية تشكيل البناء الاجتماعي وتنهض على افتراضين هما:(وجود تشابك وتداخل بين الفعل والبناء، وجود حركة تشكيل مستمرة متجهة من الفعل Agency إلى الممارسة Praxis).
وبتكرار الممارسات وفقًا لقواعد محددة، واستغلال مصادر معينة تشكل النظم والمؤسسات ويعاد تشكيلها، وطالما أن هذه الحركة مستمرة باعتبار المكان والزمان، فإن البنى الأساسية للقواعد والمصادر ستتغير، ومن ثم يحدث إعادة تشكيل لمكونات الحياة الاجتماعية. غير أن هذه الحركة يقابلها دائمًا كوابح (قيود) بنائية من قبل النظام تحول دون التغير، وعلى الفاعل أن يتسم بالثقة والمعرفة للتغلب على هذه القيود. وفقًا لهذه النظرية فإن تنمية الشباب وتطويره يساهم في تطوير المجتمع وقيادته نحو مجتمع المعرفة ويكون الفاعل (الإنسان) في مركز هذه العملية ونقطة انطلاق هذا التغيير.
يتناول الكتاب الفصول التالية:-
الفصل الأول: الشخصية الشابة والمجتمع.
الفصل الثاني: الشباب ونوعية الحياة.
الفصل الثالث: ثقافة المسئولية الاجتماعية لدى الشباب:تأويل سيسيولوجي في إطار نظرية المجال العام.
الفصل الرابع: الشباب والمواطنة والتحول الديموقراطي.
الفصل الخامس: الشباب بين أزمة القيم وتحديات العصر.
الفصل السادس: مجتمع المعرفة والتنمية البشرية للشباب (رؤية نظرية).
الفصل السابع: نحو خطة شاملة لتنمية الشباب.