الوصف
يعرّف مصطفى أيت خرواش كتابه نظرية العلمانية عند عزمي بشارة – نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بأنه تتويج “لعمل مُضنٍ قُمنا به من خلال تتبُّعنا مشروع الدين والعلمانية في سياق تاريخيللمفكر العربي عزمي بشارة، […] ويرجع سبب اهتمامنا بمشروع الدين والعلمانية عمومًا إلى اعتبارين: يكمن أولهما في تتبُّعنا عددًا من المشروعات النقدية التي قاربت إشكال الدين في العالم الإسلامي، سواء تلك التي انتقدت الموروث الديني من زاوية الإصلاح وإعادة النهوض، أم تلك التي انتقدت الدين بغرض التجاوز أو القطيعة الإبيستيمولوجية. واستنتجنا ضخامة المجهود العلمي المبذول لدراسة هذا الإشكال، لكن من دون أن يتجدد الفكر الديني والمجتمعي، ومن دون أن يحصل أي إصلاح ديني حقيقي. أما الاعتبار الثاني، فيتمحور حول فرضية اعتبار سؤال الدين سؤالًا مستهلكًا لا يُعبّر عن جوهر الإشكال الذي تحاول جلّ هذه المشروعات حلَّه، وأنه ربما يجدر بنا دراسة أنماط الوعي وتطوّره، وكذا أنماط العلمنة التي تُفرزه”.
يقع هذا الكتاب (144 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في ثلاثة فصول، يسمي المؤلف كلًا منها باسم مجلد من المجلدات الثلاثة التي تؤلف كتاب بشارة.
يسبر خرواش في الفصل الأول، “الدين والتدين”، أغوار الجزء الأول من المجلد الأول من كتاب بشارة، فيتكلم عن المقدس والأسطورة والدين والأخلاق، وعن التدين، وعن نقد نقد الدين، مقدمًا التعريفات التي أدرجها بشارة، ثم يختم هذا الفصل بالانتقال من مبحث الدين والتدين إلى مبحث العلمانية. يكتب: “يُعدّ الجزء الأول من مشروع الدين والعلمانية في سياق تاريخي ديباجة معرفية ضرورية، توقف فيه بشارة عند موضوع الدين أو الظاهرة الدينية، ودرس عناصرها ومكوناتها وإفرازاتها المختلفة التي مرّت بها عملية العَلمنة وسياقاتها التاريخية المختلفة، ليفرز نظريات العلمنة وجدليتها المتباينة ويدرسها، كي يخلص إلى طرح أنموذج نظري متكامل انطلاقًا من إجمالي هذه الإشكالات التي سيدرسها على طول مجلدات المشروع. إنّ تناول موضوع الدين والتدين في هذا الجزء ليس من منطق أنه أساس المشروع ونواتُه المحورية، بل العكس؛ فجوهر مشروع بشارة هو العَلمنة والعلمانية. إلا أنه بفعل تنامي السرديات الكبرى حول الدين والظاهرة الدينية، من قبيل خلط الدين بالأسطورة والخرافة والأخلاق عندما يجري الحديث عن الظاهرة الدينية، بدأ بشارة من هنا بالضبط؛ أي دراسة الدين وما يحوم حوله من ظواهر مختلفة، مفرزًا كل ظاهرة على حدة، وناقدًا في المحصلة جلَّ التعميمات التي شملت وتشمل دراسة الدين والظاهرة الدينية عمومًا”.
في الفصل الثاني، الذي جاء بعنوان، “العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية”، يطوف خرواش في الجزء الثاني من المجلد الأول من كتاب بشارة، والذي يعتبره “النواة الأساس المتقدمة للمشروع، في ضوء النتائج التي وصل إليها، نظرًا إلى أن دراسة صيرورة العلمنة وتشكُّل العلمانية بالتوازي مع دراسة تطوُّر الدين ونقده ونقد نقده قد جرت بلورتها وتقديمها على نحو مستفيض في حركة لولبية للتاريخ الفكري في هذا الجزء المهم. ارتكز جهد المؤلف في الجزء الأول على دراسة الظاهرة الدينية وما يتعلق بها من ظواهر متشابكة، مفرزًا كل ظاهرة على حدة بالتفسير المعرفي المتداخل، وصولًا إلى وضعِه الصيغة التعريفية المفهومية البارزة لمفهوم العلمنة التي اعتبرها أنموذجًا سوسيولوجيًا وصيرورة تاريخية تراكمية يتعرض فيها الدين لإعادة الوعي بنفسه باعتباره دينًا، وإعادة قراءته على أنه موضوع للمعرفة، بل إعادة عَلمنته نتيجة تطوُّر المعرفة الحديثة وما صاحبها من علمنة للوعي والمجتمع والدولة”. يعرض المؤلف ما ورد في كتاب بشارة عن النهضة والأنسنة الكاثوليكية ومركزية الإنسان والإصلاح الديني ونشوء منطق الدولة وبداية الاكتشافات العلمية، وفي مرحلة ما بعد التنوير من الريبية إلى العقل المطلق ومنه إلى نقد العقل، ثم يتناول العلمانية باعتبارها أيديولوجيا في القرن التاسع عشر، مع نماذج في النقد الحداثي للتنوير ونماذج من ليبرالية وديمقراطية معاصرة في حرية الدين والعقيدة، خاتمًا باستدراك في الأنسنة العربية والعلمانية.
تناول المؤلف، في الفصل الثالث، “العلمانية ونظريات العلمنة”، التأريخ ومسألة تعميم الأنموذج الأوروبي في العلمنة، مقدمًا نماذج تاريخية للعلمنة من التجارب الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، إلى جانب الأنموذج البولندي، ثم ينتقل إلى البحث في العلمنة ونظرياتها، وأنموذج العلمنة بين أوروبا وأميركا، والديانة السياسية والديانة المدنية. يكتب: “تعرَّض مفهوم العلمنة عبر تجلياته المختلفة في الفضاء الأوروبي للتطور من مفردة كانت تُستخدم في الفضاء الكنسي، كما أسلفنا في ضوء قراءتنا لمشروع بشارة، إلى مصطلح أكسبته أيديولوجيا القرن التاسع عشر مفهومًا أصبح ’براديغمًا‘ في العلوم الاجتماعية في ما بعد. وتطورت نظريات العلمنة، سواء تلك التي تنتقد النظرية في سردياتها التاريخية، أو تلك التي طوّرت النظرية عبر إعادة فهم الصيرورة التي ترتكز عليها العلمنة، بتأثير تداخل المناهج المعرفية، حتى دُحضت أطروحة الفصل المفروغة من أي اعتبار للسياقات التاريخية والصيرورات المتباينة”. وينتهي إلى أن أطروحة الفصل بين المجالين الديني والدنيوي لا تعبّر عن حقيقة التمايز بين المجالات المعرفية المختلفة وصيروراتها المتباينة، ومن ثمّ، فإن من الضروري التمييز بين أنماط التدين والفئات الاجتماعية وأنواع الدولة وتاريخها ودرجة تطوُّر المجتمعات ودرجة علمنة الوعي فيها، وإلا فإن نظرية العلمنة تسقط في تعميمات واستقراءات خاطئة.
يقول خرواش في “خاتمة” الكتاب، إن بحث الدين والعلمانية لا يُعتبر بحثًا فلسفيًا بالمفهوم الكلاسيكي في الأقل، “بمحدداته الإبيستيمولوجية واللغوية والمنهجية. إنه بحث فكري ونظري يقارب موضوعًا تتداخل فيه الفلسفة (فلسفة الدين، فلسفة التاريخ …إلخ) مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، لذلك اعتمد بشارة لهذا الاعتبار منهجية تداخل العلوم. وتكمن قوة الكتابة الفكرية التي اعتمدها بشارة في شموليتها وتخصُّصها في الوقت نفسه؛ ذلك أنها استوعبت جميع مناحي الكتابة عن العلمانية والدين معًا بمنهج تكاملي تركيبي، وتبحّرت على نحو متخصص في قضايا فلسفية ونظرية دقيقة، ما يسمح للمتخصص وغير المتخصص باستيعابها بدرجة متفاوتة”.
وبحسبه، مَنهَجَ بشارة نظريةَ العلمنة، بما هي “دَنيوَة” للدين بطريقة مركبة ومنظمة، معتمدًا على منهجية ترتيب النواظم المعرفية التي تُقوّي مشروعه الفكري. كما نتج من دراسة صيرورة العلمنة تشكُّل العلمانية في صيغ سياسية وتاريخية متعددة، وأصبح من المجحف النظر إلى العلمانية على أنها فلسفة، أو موقف سياسي يفصل الدولة عن الدين، في اختزالية فاضحة، بغض النظر عن دراسة السياقات التاريخية لنشوئها، واختلافها من بلد إلى آخر، ومن ثقافة دينية إلى أخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر. ويختم مؤكدًا أن مقاربة بشارة ستساهم في مصالحة الوعي العربي والإسلامي مع ذاته، ومع خصومه الأيديولوجيين، خصوصًا الأيديولوجيات العلمانية التي فشلت في استقدامها للنظرية العلمانية على أنها مشروع مجرد، ومحاولة تطبيقها قسرًا على مجتمعات تقليدية ودول هجينة، وعلى ثقافة دينية شمولية.
باحث في الأدب المقارن والدراسات الثقافية وطالب دكتوراه بمدرسة الدكتوراه “الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية” التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة ابن طفيل بالمغرب، حاصل على الماجستير في الأدب المقارن من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، مهتم بقضايا الأدب العالمي وتحولات التنظير الأدبي والمعرفي لإشكالية “العالمية” في سياق الإنتاج المعرفي والأدبي، وقضايا التحولات الثقافية والسياسية في الوطن العربي. عمل باحثًا مساعدًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وباحثًا مشاركًا في مركز أفكار للدراسات والأبحاث. اشتغل مترجمًا مع العديد من مراكز الأبحاث والمؤسسات الدولية. وشارك في مؤتمرات وندوات دولية ومحلية عدة، ونشر بحوثًا ودراسات عدة في دوريات دولية محكمة، كما يكتب مقالات رأي في عدد من المنابر الإعلامية.