الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
تعتبر الشركات عابرة القومية واحدة من أهم الجهات الفاعلة في الاقتصاد العالمي، وتحتل مكانة أقوى. في معركتهم المستمرة لزيادة الأرباح، من أي وقت مضى, تحولوا بشكل متزايد إلى العالم النامي، عالم به العديد من عوامل الجذب بالنسبة لهم. لكن ما هو تأثيرها على الفقراء؟
مؤخراً صدر كتاب في غاية الأهمية وهو كتاب: “نهب الفقراء: الشركات عابرة القومية واستنزاف موارد البلاد النامية”, Big Business, Poor Peoples: How Transnational Corporations Damage the World’s Poor للباحث البريطاني “جون ماديلي” وصدرت له ترجمة عربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة لبدر الرفاعي. “جون ماديلي” كاتِب عَمِل أَكْثَر من 10 سَنَوات في عِدّة شَرِكات عابِرة للقَوْميّة، ممّا جَعَلَه على دِراية تامّة بخَفايا هذه الشَّرِكات، وهو ما يُعْطي الكِتاب أَهَمّيّة خاصّة.
التكلفة الإنسانية
قَدَّم جون ماديلي في مَطْلَع كِتابِه نَقْدًا لِأُسْلُوب تَقْييم الأَنْشِطة الاقْتِصاديّة بِشَكْلٍ عامّ، فَرَأَى أَنَّه غالِبًا ما تُقيَّم الأَنْشِطة الاقْتِصاديّة من مَنْظُور ماليّ، وتُحْسَب التَّكاليف بِناء على أَساسيّات عِلْم المُحاسَبة، إلّا أَنَّه دائِمًا ما تُغْفَل تَكْلِفة هامّة وهي التَّكْلِفة الإِنْسانيّة، ورَأَى أَنّ التَّكْلِفة الرَّئيسة الَّتي تَقُوم عليها الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة هي التَّكْلِفة الإِنْسانيّة.
ورَأَى جون ماديلي أَيْضًا أَنّ أَنْشِطة الحُكُومات الاقْتِصاديّة تَخْضَع لِمُراقَبة وتَقْييم دَوْريّ، وغالِبًا ما يَتِمّ مُهاجَمة الحُكُومات في حال أساءَت اسْتِخْدام المَوارِد الاقْتِصاديّة والبَشَريّة، إِلّا أَنّ هذا التَّقْييم لا تَخْضَع له الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة أَبَدًا، فَهي تُمارِس أَنْشِطَتها في ظِلّ غياب شِبْه تامّ للمُراقَبة والتَّقْييمِ.
ويَعْتَقِد جون ماديلي أَنّ الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة نَجَحت نَجاحًا باهِرًا في خِدْمة حَمَلة الأَسْهُم والمالِكين، إِلّا أَنّ العَوائِد الَّتي ذَهَبَت لجُيُوب هَؤُلاء المُلّاك تَمّ جَمْعُها من جُيُوب الفُقَراء لا سيَّما في الدُّوَل النّامية، خاصّة أَنّ هذه الشَّرِكات تَسْتَغِلّ نُفُوذَها الماليّ وقُوَّتها الاقْتِصاديّة للضَّغْط على حُكُومات الدُّوَل النّامية لسَنّ تَشْريعات تَدْعَم الخَصْخَصة ممّا يُعزِّز أَرْباحَها ويَزيد فَقْر هذه الدُّوَل.
طغيان السوق
اسْتَهَلّ جون ماديلي فُصُول كِتابِه بالقَوْل: الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة أَدَوات لطُغْيان سُوق تَنْتَشِر بطُول العالَم وعَرْضِه كمَرَض السَّرَطان، وتَسْتَوْطِن أَكْثَر مَناطِق العالَم حَيَويّة، وتُدَمِّر الأَرْزاق وتُهَجِّر النّاس وتُضْعِف المُؤَسَّسات الدّيمُقْراطيّة وتَقْتات على الحَياة في سَعْيها الحَثيث وراء الأَمْوال”، وهذا السَّعْي وراء المال لم يَكُن إلّا على حِساب فُقَراء العالَم.
يعْتَقِد جون ماديلي بِأَنّ سَيْطَرة الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة على الاقْتِصاد العالَميّ ازْدادَت في أَعْقاب تَأْسيس مُنَظَّمة التِّجارة العالَميّة عام 1994م، وخاصّة من خِلال بُرُوز مَفْهُوم العَوْلَمة، وسَعَت هذه الشَّرِكات لاسْتِغْلال الرُّكُود في دُوَل العالَم النّامي لِلدُّخُول إليها والتَّحكُّم بمَقْدَراتها، ويَرَى أَنّ الشَّيْطان يَكْمُن في تَفاصيل عَمَل هذه الشَّرِكات.
إحصاءات
قَدَّم جون ماديلي بَعْض الإِحْصائيّات الخاصّة بِالشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة، فَقيمة الاسْتِثْمارات الخارِجيّة الَّتي تَقُوم بِها تَبْلُغ 1,3 تِريلْيُون دُولار، وتُسَيْطِر على 84% من الاسْتِثْمارات الأَجْنَبيّة في العالَم النّامي، وتَسْتَحْوِذ 500 شَرِكة عابِرة للقَوْميّة على 70% من حَجْم التِّجارة العالَميّة، و 30% من حَجْم النّاتِج المَحَلّيّ الإِجْماليِّ.
تَسْتَغِلّ هذه الشَّرِكات حالة التَّرَدّي الاقْتِصاديّ في الدُّوَل الفَقيرة، فاسْتِثْمارات هذه الشَّرِكات ازْدادَت في أَفْريقْيا بنِسْبة 100% وفي غَرْب آسْيا 38% وفي أَمْريكا اللّاتينيّة 11%، وفي ظِلّ هذا الواقِع يَعيش 1,2 مِلْيار شَخْص حَوْل العالَم تَحْت خَطّ الفَقْر في دُوَل تَكْسِب فيها الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة مِلْيارات الدُّولارات.
يَرَى جون ماديلي أَنّ ازْدياد فَقْر الدُّوَل الفَقيرة يَرْتَبِط بِزيادة نَشاط الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة كَوْنُها تَنْقُل خيارات البِلاد للخارِج، فَدُيُون هذه الدُّوَل مُجْتَمِعة ارْتَفَعَت من 9 مِلْيار دُولار عام 1950م إلى تِريلْيُونَي مِلْيار دُولار عام 2000م، ويَرَى الكاتِب أَنّ فِكْرة مُساعَدة هذه الشَّرِكات للدُّوَل النّامية سائِدة على مُسْتَوَى العالَم، لَكنَّها في حَقيقة الأَمْر تَسْتَثْمِر في مَوارِد هذه الدُّوَل وأَحْيانًا تَقْتَرِض من بُنُوكِهِم وتَأْخُذ الأَرْباح إلى الخارِج.
استغلال العولمة
كَما يَعْتَقِد جون ماديلي أَنّ الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة اسْتَغَلَّت العَوْلَمة لِتَحْقيق أَهْدافِها ويَسْتَعين هُنا بِمَقُولة لِلاقْتِصاديّ جُون كنيث جالبريث يَقُول فيها: “العَوْلَمة لَيْسَت مَفْهُومًا جدّيًّا لقد اخْتَرَعْناها لنَشْر سياساتنا الاقْتِصاديّة في البِلاد الأُخْرَى”، كما يَرَى أَنّ العَوْلَمة هي سَبَب تَراجُع مُعَدَّل نُمُوّ اقْتِصاد الدُّوَل النّامية من 3,3% عام 1980م إلى أَقَلّ من 1% عام 2000م.
يتناول جون ماديلي في هذا الكتاب عِدّة مَجالات تَسْتَغِلُّها الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة في سَعْيها لِتَكْديس الثَّرَوات، ففي مَجال الغِذاء تَسْعى للتَّرْويج للحَليب الصِّناعيّ للأَطْفال الرُّضَّع وهُو ما يُسَبِّب سَنَويًّا مَوْت مِلْيُون طِفْل في العالَم نَتيجة حِرْمانِهِم من حَليب الأُمّ الطَّبيعيّ، إِضافةً لِلتَّرْويج للأَطْعِمة السَّريعة والتَّبَغِ.
وفيما يَخُصّ الغِذاء أَيْضًا تُسَيْطِر هذه الشَّرِكات على 80% من زِراعة وتِجارة المَحاصيل_الزِّراعيّة، كما تَمْلِك 70% من بَراءات اخْتِراع الصِّلة الزِّراعيّة وغالِبيَّتها مُعَدَّلة وراثيًّا، كما تَقُوم أَيْضًا بالتَّرْويج لإِدْخال مُنْتَجات مِثْل كوكا كولا وبيبسي كنتاكي وفرايد تشكن والسَّجائِر وغَيْرها إلى النَّمَط الغِذائيّ لشُعُوب العالَم الثّالِث وإِنْفاق جُزْء مُهِمّ من دَخْلِهم على هذه المُنْتَجات.
ووفقاً لـ جون ماديلي, تَعْمَل الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة وبِشَكْل غَيْر مُباشِر على تَدْمير الغابات الاسْتِوائيّة المَطيرة، وتَسْتَخْدِم المُنْتَجات الطَّبيعيّة وفِراء الحَيَوانات لإِنْتاج السِّلَع الفاخِرة للطَّبَقات بالِغة الثَّراء وبَيْعها بأَسْعار ضَخْمة وتَحْقيق أَرْباح هائِلة، والمُفارَقة أَنّ الفُقَراء هُم من يَعْمَلُون لإِنْتاجها مُقابِل عَوائِد لا تُذْكَر.
استغلال قطاع الدواء
وفيما يَخُصّ قطاع الأَدْوية يَرَى جون ماديلي أَنّ الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة اسْتَغَلَّت قِطاع الدَّواء لِتَحْقيق أَرْباح هائِلة، فالدُّوَل النّامية تُنْفِق 30% من دَخْلها للصِّحّة تَذْهَب غالِبيَّتَها لِهذه الشَّرِكات، وتَرْتَبِط عَوائِدها بِشَكْل مُباشِر بمُعَدَّل انْتِشار الأَوْبِئة، وتُنْفِق شَرِكات الأَدْوية 30% من عَوائِدها السَّنَويّة على التَّسْويق والإِقْناع وتَزيد هذه النِّسْبة بِشَكْل كَبير عن المَبالِغ المُخَصَّصة لِتَطْوير الأَدْوية.
عوائد شركات الأدوية
وقَدَّم جون ماديلي بَعْض الحَقائِق حَوْل عَوائِد شَرِكات الأَدْوية العابِرة للقَوْميّة، فشَرِكة فايزر الأَمْريكيّة تُحَقِّق رِبْحًا سَنَويًّا يُقارِب 20 مِلْيار دُولار، وشَرِكة جونسون آند جونسون تُحَقِّق رِبْحًا سَنَويًّا 11 مِلْيار دُولار، وتَبْلُغ القيمة السُّوقيّة لأَكْبَر خُمْس شَرِكات أَدْوية عابِرة للقَوْميّة في العالَم أَكْثَر من ضِعْفَي النّاتِج المَحَلّيّ الإِجْماليّ لِكُلّ دُوَل قارّة أَفْريقيا.
وفيما يَخُصّ السّياحة رَأَى جون ماديلي أَنَّها هي الأُخْرَى تُسْتَغَلّ من قِبَل الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة لمُراكَمة الأَرْباح، ووَصَفَها بأَنَّها “دَعارة ثَقافيّة”، ويُشَكِّل هذا القِطاع ثاني أَهَمّ مَصْدَر للعُمْلة الأَجْنَبيّة بَعْد النِّفْط في الدُّوَل النّامية، ويَبْلُغ عَدَد السُّيّاح سَنَويًّا في العالَم أَكْثَر من 900 مِلْيُون سائِح، إِلّا أَنّ الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّات تُسَيْطِر وبإِحْكام على هذا القِطاع.
حقائق رقمية
قَدَّم المُؤَلِّف جُمْلة من الحَقائِق الرَّقْميّة الَّتي تُبَيِّن مَدَى سَيْطَرة الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة على قِطاع السّياحة، فهي تَمْتَلِك أَهَمّ سَلاسِل الفَنادِق في العالَم وتَمْلِك أَهَمّ خُطُوط الطَّيَران، ف 60% من الفَنادِق في آسْيا مُرْتَبِطة مَع الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة بعُقُود إِدارة و 23% بعُقُود امْتياز و 15% مِلْكيّة مُباشِرة.
خَلَص جون ماديلي في نِهاية كِتابه إلى أَنّ الشَّرِكات العابِرة للقَوْميّة أَداة فَعّالة في زيادة مُعَدَّل التَّحكُّم الاقْتِصاديّ في الدُّوَل الفَقيرة، وأَنّ زيادة القيمة السُّوقيّة لها يَرْتَبِط بِشَكْل مُباشِر بِزيادة عَدَد الفُقَراء في العالَم، وعلى الرَّغْم من أَنَّه غالِبًا ما يَتِمّ التَّرْويج لها على أَنَّها تَسْعَى لِتَنْمية الدُّوَل الفَقيرة إِلّا أَنّ الحَقيقة تَتَمَثَّل في كَوْنِها تَسْتَغِلّ مَوارِد هذه الدُّوَل ولا تُعْطيها إِلّا النَّذْر اليَسيرَ.
This post is also available in: English (الإنجليزية)