الوصف
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب وثائق المؤتمر العربي الأول 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الدبلوماسية الفرنسية المتعلقة به، وهو دراسة أجراها وجيه كوثراني وقدم لها، ليست الغاية منها استعادة ذاكرة تاريخية أسقطت عليها مشاعر حنين لأيديولوجيا فحسب، بل بذل محاولة تفسير سياق هذا الحدث وتقاطعات الفاعلين فيه واختلاف مواقع رهاناتهم وفهمها، علمًا أن الفاعلين فيه لم يكونوا المشاركين العرب وحدهم ولا خطاباتهم وحدها، وإنما أيضًا سياسات دولية فاعلة تمثلت في أشكال من الاستثمار والتوظيف والتدخل والرهانات المتعددة، فكانت محاولة التقاطٍ وجمعٍ لأبعادٍ وتركيبٍ لتقاطعات عروبية – عثمانية – دولية.
يتألف هذا الكتاب (304 صفحات بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة وثلاثة أقسام. في مقدمته لهذه الطبعة الجديدة من الكتاب، يطرح كوثراني سؤالين تولّدا من “ذاكرة جديدة”، كما يقول، راكمت أربعين عامًا من صورٍ وأفكارٍ وأمكنة وحوادث وثورات، كان من شأنها أن توجب إعادة النظر في المواقف والرؤى.
ينطلق السؤال الأول من تناقض رأيَي عبد الحميد الزهراوي، المنسق الأساسي للمؤتمر، الذي ذهب مذهب الرهان على أوروبا ورجالها المتنورين، وشكيب أرسلان الذي قال: “إن الأوروبيين مهما اجتهدنا ومهما حاولنا التظاهر بالقومية لا يعرفون المسلمين إلا أمة واحدة، إذا سقط بعضهم رأيت الأوروبيين يحتقرون الجميع”. والسؤال هو: ما مدى التغير في ثنائية هذا التفكير العربي الذي أمسى نمطًا من حرب أهلية عربية اليوم تشتعل بين علمانوية طائفية وإسلاموية طائفية أيضًا؟
أما السؤال الثاني فهو: هل تغير شيء في علاقة القوى الأجنبية العالمية النافذة بالداخل العربي، أي بقضاياه ومسائله ومشكلاته وسياساته واقتصادياته وأديانه ومذاهبه، بل بمؤتمراته العربية التي يصعب تعدادها لكثرتها بعد “الأول”، عما كان عليه الحال في العلاقة الوظائفية بين الفاعلين في المؤتمر العربي الأول في مطالع القرن العشرين والفاعل الأوروبي؟
في القسم الأول، “الدولة العثمانية وظروف نشأة الحركة العربية”، مباحث ثلاثة. في الأول، “مدخل إسلامي لدراسة الدولة العثمانية”، يرى كوثراني أنّ الأطروحات الأيديولوجية التي صيغت كمسلمات لدى بعض الكتاب الذين يعتبرون الحركات المحلية المناوئة للولاة العثمانيين أو بعض الدعوات الانفصالية عن الدولة العثمانية دعوات وحركات قومية، “ساهمت في تشويه النظرة لا إلى التاريخ العثماني فحسب، حيث أبرز الأتراك فاتحين ومستعمرين، بل في تشويه النظرة إلى التاريخ العربي والإسلامي (الوسيط) حيث حرص على إبراز العرب شعبًا غالبًا، واعتبر ازدهار الحضارة العربية مشروطًا بغلبتهم. وبالتالي اعتبر الانحطاط والتراجع الحضاري من نتائج غلبة الشعوب والأقوام الإسلامية الأخرى. هكذا، اعتبرت قرون الانحطاط هي قرون حكم الأتراك، واختزلت بالتالي عملية التخلف التاريخية التي دخلت في وعي المثقفين العرب في مرحلة سيطرة الغرب، في صيغة تخلف عن الحضارة التي هي حضارة الغرب الرأسمالي آنذاك، وتم ببساطة إسقاط الأسباب التي أدت إلى هذا التخلف على حكم الأتراك العثمانيين”. وبحسبه، حدثت فجوة عميقة في الوعي التاريخي لدى مثقفي عصر النهضة، بين الماضي العربي – الإسلامي من جهة، وبين تمثل المستقبل عبر الحاضر الذي كان يقدم نموذجه الصارخ الغرب التوسعي آنذاك.
في المبحث الثاني، “حركات الوحدة والتجزئة: الصراع على السلطة والنزاعات القومية”، يقول كوثراني إن تاريخ الصراعات السياسية المحلية في المشرق العربي هو إلى حد بعيد “تاريخ صراع العصبيات المحلية لفرض سلطتها كأمر واقع يعترف به السلطان فيصبح شرعيًا. وهذه العصبيات لم تكن تصطدم ببعضها فحسب، بل كانت تصطدم في مساق توسع نفوذها في المقاطعات، أي توسع حدود التزامها للضرائب وجبايتها لها، مع الولاة والحاميات العسكرية التي انفتحت ابتداء من أواخر القرن السادس عشر على السكان المحليين، وتعاطى بعض أفرادها التجارة والتزام الضرائب عن المقاطعات. وهذا ما جعلها تدخل بصورة مباشرة في الصراعات الداخلية بحيث أصبحت جزءًا من العصبيات المحلية، تصطدم مع عصبيات وتتحالف مع أخرى، وذلك تبعًا للمصلحة التي تحددها مناطق الالتزام، وطرق القوافل والتجارة وما يمكن أن تدره هذه الأخيرة من مكوس”.
بناء عليه، كان الصراع صراعًا بين أجهزة السلطات العثمانية نفسها ومواقعها، “إنه إذا صح أن نسحب المفهوم الخلدوني إلى هذه الفترة، صراع من أجل نشوء ولايات الأطراف”، وفقًا لكوثراني.