الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
منذ أن ألف جورج أورويل روايته “1984” والناس يقبلون على قراءتها في مختلف أنحاء العالم، إذ يجدونها مفيدة “للتعامل مع الأزمنة الصعبة”. ومؤخرا صدرت الرواية بنسختها الفرنسية عن دار نشر Gallimard فى 384 صفحة.
ما زال القارئ لرواية جورج أورويل “1984” يُصدم بما تحويه من تصور مخيف للحياة في ظل بيئة شمولية، إذ يبدأ إدراك تطابق ما يصفه المؤلف مع الواقع الحالي، فتنفتح عيناه بفضل أورويل على آليات عمل الأنظمة الشمولية.
ويري القارئ في الرواية أمثلة على “التضارب الفكري” الجامع بين نقيضين، و”الحديث المختزل” الذي يحرم به النظام معارضيه من أدوات التعبير عن الرفض، و”شرطة الفكر” و”وزارة الحب” التي تتخصص في الألم واليأس ومَحق المنشقين، وكذلك “وزارة السلم” التي تشن الحرب، وآليات الكتابة التي تستميل الجماهير بالمواد الإباحية، وغيرها.
وحينما نقرأ “1984” اليوم نشعر بالتوجس، إذ نقيس عليها أين أصبحنا وإلى أين نتجه نحن وبلداننا والعالم على خارطة الجحيم الذي وصفه أورويل، فهل كانت تلك الرواية استقراء للمستقبل؟ ربما. هل كانت مفعمة بالإلهام وموقظة لملكات الفكر والإبداع بشكل لا يقبل الشك؟
نعم بالطبع هي كذلك، فالرواية التي نُشرت في الثامن من يونيو/حزيران عام 1949 على خلفية حرب شاملة أتت على الأخضر واليابس وفي بلد خرج منها الكاتب وقد استبد به الجوع والتعب واليأس، تعد وثيقة الصلة بعالمنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتمدنا بما نحتاجه لمواجهة معطيات هذا العالم.
يستهل الكاتب روايته بتلك الجملة التي لا يعرف القارئ كيف يفهمها: “يوم مشرق بارد من أيام أبريل/نيسان ودقات الساعة الثالثة عشر”، بادئا في تحديد السمات الغريبة للاستبداد الحديث، فبطل القصة، وينستون سميث، يعمل رقيبا بوزارة “الحق” منهمكا في مراجعة التاريخ وتعديله ليوافق الظروف الراهنة والتحالفات المتغيرة.
ويسمع سميث ويطيع أوامر “الأخ الأكبر”، الذي يرى ويعلم كل شيء عنه ورفاقه العاملين، الذين يتم التحكم فيهم ككتلة واحدة.
وتدور الرواية “مستقبلا” في عام 1984، حيث تراقبك شاشات التلفاز في كل مكان، والجميع يتجسس على الجميع. واليوم، تجمع وسائل التواصل الاجتماعي كل رد فعل وتعليق وحركة شراء نباشرها على الإنترنت، لتغذي بها منظومة تكاد تعلم كل شيء عن حياتنا، لتتكهن بما نؤْثره وما لا نؤثره، وتحاكي قواعد التسويق باعتبار المستخدم هو السلعة التي تباع توجهاتها إلى القائمين على الحملات السياسية، ما يهدد بتحريف حركة الديمقراطية عن مسارها الصحيح.
وقد أدرك أورويل حاجة الأنظمة القمعية باستمرار لخلق أعداء، وبيَّن لنا في الرواية كيف يُخلق هؤلاء الأعداء بأي شكل عبر تهييج الرأي العام من خلال الدعايات المستمرة.
وفي وصفه لـ”دقيقتي البغض”، استشرف أيضا السبيل الذي من خلاله يُهيَّج الغوغاء على الإنترنت، فالبطل وينستون سميث شأنه شأن الباقين يُلزَم بمشاهدة فيلم عنيف، ويعقب قائلا: “إن أبشع ما بفقرة دقيقتي البغض ليس التزام المرء بالمشاركة، بل أنه لا سبيل لتجنبها، وإنما نشوة الخوف والرغبة البشعة في الانتقام والقتل والتنكيل وسحق الوجوه بمطرقة ثقيلة تسري في الجمع بأسره كتيار كهربي”.
واليوم، ثمة تنظيمات سياسية ودينية وتجارية تعمل على تهييج المشاعر. وبذكاء بالغ، أدرك أورويل ذاك التواطؤ من جانب الأفراد في الكراهية التي تثيرها تلك التنظيمات، والتي رآها وينستون في نفسه، وبالتالي يمكننا نحن أيضا أن نراها في أنفسنا.
ثم نأتي إلى الصورة الأبرز للأخ الأكبر، الديكتاتور الذي صوره أورويل بشكل يجمع بالتساوي بين السخف والقبح متأثرا بالصراعات التي دارت رحاها بين النظريات الشمولية الكبرى في القرن العشرين.
فقد ناضل بنفسه كمتطوع ضد الفاشية إبان الحرب الأهلية الإسبانية، معتقدا أنه لا سبيل للنأي الكلي عن العنف في مواجهة الفاشية باعتبار التقيد بالسلم المطلق رفاهية يدفع آخرون ثمنها، حتى أدرك بعد ذلك خواء ما تقدمه الشيوعية حينما لاحقت المجموعة الموالية لستالين الفصيل المضاد لها الذي انضوى أورويل تحت لوائه، حتى قضت عليه بالكامل.
كما رأى بنفسه خداع المعتنقين لتلك الأفكار لأنفسهم. واليوم يشهد عالمنا مجموعة أخرى من الشموليات من قبيل القوميات والشعبويات المتطرفة، التي تعمل على حشد الجماهير بتأجيج الكراهية.
وأينما قلب المرء وجهه في عالمنا المعاصر، رأى أصحاب السلطة المطلقة يمسكون بمقاليد الأمور، وتجمعهم الرغبة في سحق المعارضة، والفزع من أي بادرة لها، والولع بتضخيم أنفسهم، وهكذا بات لـ”الأخ الأكبر” أشقاء عديدون يجوبون طول الأرض وعرضها!
This post is also available in: English (الإنجليزية)