الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي
تمت ترجمة الكتاب من خلال الشبكة العربية للأبحاث والنشر
تأثر المستشرق الكبير “مايكل كوك” بكلام الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، حيث قال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الإسلام، وجوهر الدين، فكان ذلك من دوافع إقدام كوك على بحث هذا الأمر في الموروث الفقهي والكلامي الإسلامي المكتوب كله.
وقد التزم كوك في عمله ظاهراً بالطرائق الفيلولوجية فاستوعب كل ذكر لهذين المفردين عن طريق القراءة الهائلة، والتنظيم الدقيق.
بيد أن إشكالية الكتاب هي المواطنة المعاصرة التي تقول بحق الجميع في المشاركة والإسهام في تحقيق الخير العام، والتدخل من أجل التصحيح والتغيير.
وهو يرى أنها توافرت في التجربة الإسلامية الكلاسيكية بسبب إصرار المسلمين عليها ولا تزال لها تأثيرات في الإسلام الحديث والمعاصر، ولدى سائر الفرق والمذاهب.
إن هذا الكتاب لا يمكن تلخيصه بل لا بد من قراءته، والتمعن في مقاصده، فالنص عميق وشاسع، ويرتكز على مئات المصادر المطبوعة والمخطوطة، التي رجع إليها المؤلف بكفاية ومسؤولية عاليتي الوتيرة ولكي يصل الى استنتاجات بعيدة المدى في موضوعه، والموضوعات المجاورة.
إن الواقع أن هذا الكتاب في أحد وجوهه هو قراءة عميقة لروح الإسلام كله، من منظور إشكاليات الضمير الديني والأخلاقي، وأبعاد المسؤولية بين الدولة والمواطن في التجربة العالمية المعاصرة.
الباحث رضوان السيد وضع المقدمة، متعمقاً في مضمون هذا الكتاب، وفاتحاً آفاقاً جديدة فيه.
هنا مقتطف من مقدمة رضوان السيّد.
أولاً: القرآن: المفهوم وتحديداته
هناك ثلاثة أنواع من الآيات التي يذكر فيها مفرداً «المعروف» و»المنكر» مقترنين أو غير مقترنين.
النوع الأول، وهو الذي يحصل فيه الاقتران، وهو موضوع البحث هنا، هو الأكثر وروداً في القرآن الكريم وبثلاث صيغ: صيغة الخبر، مثل «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (التوبة:67)، وصيغة الوصف، أي وصف المؤمنين المثاليين: مثل «كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» (آل عمران: 110)، أو مثل «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر» (التوبة: 112)، وصيغة الأمر، مثل «ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (آل عمران:104)، ومن مثل «يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهِ عن المنكر واصبر على ما أصابك» (لقمان: 17).
النوع الثاني، وهو كثير الورود في القرآن، ويُفرد فيه «المعروف» وحده بالذكر، وهو يعني بوضوح: الإجادة في المعاملة أو السلوك، والإحسان في العطاء. وذلك على مثل قوله تعالى: «فأمسكوهن بالمعروف أو سرحوهن بمعروف» (البقرة: 231)، وقوله تعالى «فلا جُناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف» (البقرة: 233)، وقوله تعالى «قولٌ معروف ومغفرةٌ خيرٌ من صدقة يتبعها أذى» (البقرة: 263)، وقوله تعالى «وعاشروهن بالمعروف» (النساء: 19).
وكما يتضح مما أوردنا من آيات، فإن أكثر مرات ورود مفرد «المعروف» على الانفراد ـ فضلاً عن تحدد المعنى بالسماحة في القول والسلوك والتصرف ـ متعلق بالمشكلات الاسرية، وطرائق التعامل مع المرأة في حالات النزاع أو الافتراق.
والنوع الثالث من أنواع ذكر مصطلحي «المعروف والمنكر» أو أحدهما، هو المختص بذكر «المنكر» بمفرده، من مثل «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه» (المائدة: 79). ومن مثل «تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر» (الحج:72). ومن مثل (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر» (العنكبوت:29).
ومن مثل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» (النحل» 90). والواضح مما ذكرناه من الآيات التي ينفرد فيها «المنكر» بالذكر، أن معناه الشر، بشتى أنواعه وصيغه من مثل الكفر بالله، وارتكاب الفواحش العلنية، وقطع الطريق، والاعتداء على الناس… الخ.
وبذلك يصبح معنياً المفردين «معروف ومنكر»، واضحين وللجهتين: جهة السياقات القرآنية التي يردان فيهما، ولجهة المعنى اللغوي المتداول في المعاجم، قبل التعرض للظلال والمعاني الثواني، التي يلجأ فيها اللغويون أيضاً للقرآن، وللشعر العربي القديم.
إنما ما هو المقياس في إنكار أو رفض هذا الأمر، واعتباره بالتالي منكراً، واستحسان الأمر الآخر، واعتباره معروفاً؟ أو من هي سلطة التحديد؟ أو بتعبير ثالث: ما مصدر اعتبار هذا الأمر معروفاً أو مستحسناً أو مشروعاً، واعتبار ذاك الأمر مكروهاً أو مداناً أو منكراً؟
السياقات القرآنية سواء في حالات الاقتران أو الانفراد ليست مؤكدة أو شديدة الوضوح. لكن المتبادر منها أن المصدر الاولي لمقاربة مسألتي الخير والشر أو المعروف والمنكر إنما هو الأعراف المستقرة أو العقل الجمعي.
وقد اعتبر القرآن الكريم «الفطرة» الإنسانية أساساً لقيم الإيمان والخير «فطرة الله التي فطر الناس عليها» (الروم:30)، وفسرها النبي (ص) بهذا المعنى في حديث مشهور «كل مولود يولد على الفطرة» ـ ثم جرى قرن أو ربط «الشريعة» لدى المفسرين بهاتين المقولتين: مقولة المعروف والمنكر على أساس الفطرة، ونواتجها في العرف العام، بحيث يجري في أكثر الأحيان ومع استتباب التجربة الإسلامية التعبير عن المعروف بأنه ما صدر عن الشريعة أو ما كان شرعياً، وعن المنكر بأنه ما خالف الشريعة أو ما كان غير شرعي.
والمعروف أن هذا المبحث في سلطة تحديد الخير والشر أو الحسن والقبيح (؟) تطور لدى المتكلمين بعد القرن الثالث الهجري. وظهر من قال بالاستحسان العقلي، ومن قال بالاستحسان الشرعي.
لكن عندما أقرأ الأمر على هذه الشاكلة بالنسبة للقرنين الهجريين الأولين، فليس معنى ذلك أن العمليات التفسيرية والفقهية والتجريبية الاجتماعية والسياسية، جرت على هذا الخط المستقيم والبسيط.
إذ إن المفسرين الأوائل اختلفوا في تفسير آيات الاقتران بين المعروف والمنكر، فمنهم من اعتبرهما مقارنين للإسلام نفسه، ومنهم من اعتبر أن معناهما الملازم للإسلام هو الجهاد، أي أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن تناول واجبات للمؤمن أو للمؤمنين ذات طابع داخلي، فإنه بالدرجة الاولى يتعلق بواجبات الأمة تجاه الخارج أو مهماتها بالخارج في نشر الدعوة بشتى السبل ومنها الجهاد.
وقد كان واضحاً خلال القرنين بل القرون الهجرية الثلاثة الاولى أن الذي رجح هذا التأويل ـ وليس التفسير ـ للآيات القرآنية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس السياقات القرآنية لتلك الآيات وحسب، بل الظروف التاريخية لقيام الدولة والفتوحات، ثم استمرار الجبهتين بين المسلمين وخصومهم، في المشرق مع الشعوب التركية، وفي بلاد الشام مع البيزنطيين.
ويتضح ذلك من الاختلاف بشأن «فرضية» الجهاد بين علماء الشام، وعلماء الحجاز في مطالع القرن الثاني الهجري. فقد كان علماء الحجاز يرون أن الجهاد مستحسن أو مندوب، في حين كان الشاميون، الذين يعانون من هجمات البيزنطيين عليهم في شمال بلاد الشام، يعتبرون الجهاد واجباً على سائر المسلمين.
ثم ما لبث الجهاد ـ نحو منتصف القرن الثاني الهجري ـ أن انفصل عن مقولة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لأن الدولة استأثرت به، واعتبرته من مهماتها وواجباتها ومسوغات شرعيتها.
وفي كتابي السير لمحمد النفس الزكية (ـ145هـ/ 762م)، والاوزاعي (ـ 157هـ/ 773م) آثار بادية للصراع بين الأمرين، أو التنافس بين المبدأين: مبدأ المهمة والمسؤولية الفردية، ومبدأ المهمة والمسؤولية الجماعية من طريق اعتبارات السلطة السياسية.
ففي الكتابين اللذين وصلتنا نصوص ومقتبسات منهما، ترد عبارات مثل: «فإن خرج متطوعاً أو متلصصاً فغنم» ومثل: «ومن شتّى وحده في أرض العدو، أو عرض لداخل الى دار الإسلام…» ـ محتجاً في الحالتين بأنه إنما يمارس الجهاد باعتباره فريضة فردية، بمقتضى التمدح القرآني بالجهاد أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك لا يعتبر من «العمل الحسن».
أما الدولة من جهتها فقد أوضحت وجهة نظرها في العهدين الأموي والعباسي. ف
على المسكوكات الأموية المعرّبة أيام عبد الملك بن مروان (65 ـ 86هـ/ 684 ـ 705م) بين العامين 75 و79هـ/ 694 ـ 698م صورة للخليفة الأموي يتأبط سيفه تحت آية قرآنية نصها «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» (التوبة: 33)، وفي أسفل الدينار المسكوك: خليفة الله عبد الله عبد الملك بن مروان! فالمهمات العالمية للإسلام، وفي طليعتها حماية دار الإسلام والدفاع عنها هي من خصائص وامتيازات خليفة الله، وأمير المؤمنين.
أما الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (36 ـ 59هـ/ 656 ـ 678م) فقد نظم الأمر نهائياً في هذه المسألة حيث اشترط على «المتطوعة» أفراداً وجماعات، ممن يريدون الجهاد، أن يجهزوا أنفسهم بأنفسهم، ثم أن ينضموا الى «أمير الصائفة» ويلتزموا بأوامره في الزحف والإياب وتوزيع الغنائم، ولذا نجد في الحملات العباسية الى الجبهة مع البيزنطيين مرتزقة (جنداً نظاميين يقبضون مرتبات) ومتطوعين. أما الآخرون من سكان المناطق الحدودية، فقد صاروا جميعاً من موظفي الدولة ومرابطيها الى أن انهارت الجبهة في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، لكنّ لذلك حديثاً آخر (…).
ثانياً: الأمر بالمعروف باعتباره واجباً فردياً
ومسؤولية شرعية وأخلاقية
في الوقت الذي كان فيه الجهاد يتحول الى واجب على الجماعة من خلال إمامها، كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ومن خلال الممارسة ـ تتطور إدراكاته بوصفه مسؤولية على الأفراد والجماعات، ثم يتطور الى حق لأولئك الأفراد، وتلك الفئات.
وعندما نقرر ذلك، ونعتبر أنه حصل، وصار أمراً مستقراً في النصف الأول من القرن الثاني الهجري/الثامن القضاء العادي، وبذلك فقد اشترعوا مواصفات لما صار يعرف اليوم بالجريمة السياسية.
وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتب «السِيَر» في القرن الثاني الهجري، ثم أثبت ذلك الإمام الشافعي (ـ204هـ/819م) في باب في كتاب الأم، وصارت تلك الممارسة عادة لفقهاء المذاهب جميعاً في كتبهم الفقهية العامة الى نهايات المرحلة الكلاسيكية في التجربة الفقهية والسياسية الإسلامية.
ثالثاً: كتاب كوك في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي
تأثر المستشرق الكبير مايكل كوك بكلام الإمام الغزالي (ـ450هـ/1111م) في إحياء علوم الدين، في الفصل الذي عقده فيه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال في مطلعه إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الإسلام، وجوهر الدين، فكان ذلك من دوافع إقدامه على بحث هذا الأمر في الموروث الفقهي والكلامي الإسلامي في المكتوب كله.
وقد التزم كوك في عمله ظاهراً بالطرائق الفيلولوجية لاستشراق القرنين التاسع عشر والعشرين، فاستوعب كل ذلك لهذين المفردين في التراث الإسلامي الكلاسيكي، وعن طريق القراءة الهائلة، والتنظيم الدقيق، وقبل أن يسهّل الكومبيوتر والانترنت الأعمال الاستقصائية. بيد أن إشكالية الكتاب العظيم هذا إشكالية شديدة الحداثة إذا صح التعبير.
إشكاليته هي إشكالية المواطنة المعاصرة \والتي تقول بحق الجميع في المشاركة والمحاسبة والمراقبة لمسائل الشأن العام، والإسهام في تحقيق الخير العام، والتدخل من أجل التصحيح والتغيير. وهو يرى أنها توافرت وبعمق ديني وأخلاقي في التجربة الإسلامية الكلاسيكية بسبب إصرار المسلمين عليها وما تزال لها تأثيرات في الإسلام الحديث والمعاصر، ولدى سائر الفرق والمذاهب.
بدأ المؤلف كتابه بقصتين، أحداهما في «التوطئة» والأخرى في «المدخل». في «التوطئة» ذكر قصة المرأة التي اغتصبت في محطة قطار في شيكاغو عام 1988، وما تدخّل عشرات المشاهدين لإنقاذها أو ردع الجاني، وماذا يعنيه ذلك في سياق المسؤولية الأخلاقية والقانونية والدينية العامة.
المصدر: المستقبل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي
للمزيد من الكتب، زوروا منصة الكتب العالمية
This post is also available in: English (الإنجليزية)