الوصف
This post is also available in: English (الإنجليزية)
“الصفحة هي المكان الوحيد في الكون الذي تركه الرب فارغاً من أجلي”
تدور حبكة الرواية البسيطة عن رسام أرجنتيني هو خوان سالباتييرا، الذي يتوفى تاركا لولديه ميغيل ولويس لفائف هائلة من القماش المليء برسوماته، أصيب سالباتييرا في صغره بالخرس، إثر سقوطه من على الخيل، لكنه – الخرس- لم يمنعه من تدوين التفاصيل الهائلة لمجريات حياته، وذلك عبر طريقة مبتكرة، بالرسم على القماش. يقول مايرال فى مستهل صفحات الرواية: يعود أصل هذه الأسطورة التي تنسج حول شخصية سالباتييرا إلى صمته، أو بعبارة أخرى إلى خرسه، إلى حياته المجهولة، إلى الوجود السري طويل الأجل، والاختفاء شبه التام لعمله.بهذه العبارة، يمنح الروائي الأرجنتيني، المولود العام 1970، قارئه خيطاً رفيعاً، قوياً مع ذلك، يشد باقي خيوط الحكاية المدهشة، المبنية على متاهة تبدو للقارئ أرضاً منبسطة ممهدة، لكنها مخادعة، فهي مليئة بالشراك الممتعة، والأفكار التي تظنها سهلة. فالرسام الأخرس رسم كل شيء، رسم أبناءه، طفلته التي غرقت، النهر الذي ابتلعها، الأشجار، القرية، الصيادين، عشيقته أوخينيا روكامورا، وكذلك عشيقته الأخرى المرأة السوداء التي أنجب منها طفلاً غير شرعي. تبدأ الحكاية من ابن الرسام، ميغيل، الذي يقرر وشقيقه لويس الاهتمام باللوحة بعد وفاة والدهما، وقبلها بيوم يوصيهما وصية غامضة، يشير إلى والدتهما، ويعاود الإشارة إلى عينيه، يفهم الولدان الوصية بمحمل أن يضعا أمهما في عيونهما، لكن يتضح لاحقاً أنه لم يقصد ذلك. يتصل الشقيقان بعدة مؤسسات مانحة، للاهتمام باللوحة، خاصة أن مساحتها كبيرة وهائلة، تصل إلى 4 كيلومترات، بمقدار ستين لفافة من القماش، كل منها يحمل تاريخ عام رسمها، ويكتشفان أن إحدى اللفائف مفقودة، تلك التي تخص العام 1961، وهكذا تنطلق الرواية القصيرة، رحلة البحث عن اللفافة الناقصة التي تكمل اللوحة، أو رحلة اكتشاف الأب.“وضعه خرسه والوقت الذي قضاه في التعافي على هامش الدور المقرر لرجال العائلة الأصحاء الصاعدين” تتسبب إعاقة سالباتييرا في عزله وحصاره، يقول والده لأشقائه: بدأت من الفقر المدقع ووصلت إلى هنا، أما أنتم فتبدأون من هنا، وسنرى إلى أين تصلون”. تبدو العبارة متحدية أكثر منها معايرة الجد لأبنائه، فإذا بالأخرس الذي يستمع إلى هذه العبارة، يرسم عملاً فنياً هائلاً، يجعل ولديه يتعرفان عليه للمرة الأولى، عبر خوض رحلة اكتشاف ما خفيّ من حياة والدهما. فللمرة الأولى، يكتشف الشقيقان، أن والدهما رسم كل شيء في حياتيهما، وكذلك في حياة الأسرة، انكساراتهم، ولحظات سعادتهم، بل سجل المآسي الكبرى التي تعرضت لها البلاد، الانقلابات السياسية التي شهدتها الأرجنتين، ممثلة أيضا في لفائف القماش برسوم تعبر عن الخواء، تتمثل بساطة الحبكة التي وضعها بيدرو مايرال، في أنه جعل الشقيقين ميغيل سالباتييرا ولويس سالباتييرا يعودان مرة أخرى إلى هذه الحياة بعين أبيهم، وريشته.فيرى ميغيل لأول مرة كيف رسمه والده مراهقاً يدخن، على الرغم من أنه لم يره أبداً يفعل ذلك أمامه، يسجل الرسام سيرته الذاتية منذ زواجه بأمهما، يحولها إلى سيرة ذاتية مصورة، يقول الابن: ربما كان سالباتييرا بسبب خرسه في حاجة لأن يروي ذاته لذاته، أن يحكي لنفسه عن تجربته في جدارية متواصلة، كان سعيداً برسم حياته، لم يكن في حاجة لأن يظهرها، كان عيش الحياة عنده يعني رسمها.
يجعل الروائي الأرجنتيني بطل قصته، الرسام الأخرس، مهيمنا على الحكاية، على الرغم من غيابه، إذ تبدأ الرواية بوفاته، ويتولى ابنه ميغيل الحكي، ومع ذلك صوت الأب يظهر، خاصة عندما يشير مايرال إلى إستراتيجيته في الرسم. كان اختيار اللقطات المناسبة من أجزاء القماش المختلفة أمراً بالغ الصعوبة، إذا كان سالباتييرا يرسم بلا أُطُر جانبية، ويستطيع خلق استمرارية بين المشاهد، يصبح الرسام خالقاً يبدع النباتات، والحشرات، كأنها اسكتشات الرب قبل الخليقة، يقول ميغيل الابن: دائماً ما عجبت لكيفية ظهور الأشياء في العمل واختفائها. كان القماش بمثابة هواء طلق ممتد حيث يمكن للكائنات الرحيل ثم معاودة الظهور.
لا يمل الروائي من وضع تعريفات للفن، وفكرة الجدارية، يقول إن اللوحة توحي بإطار، أو بسياج يحيط ببعض الأشياء، وهو تحديداً ما سعى سالباتييرا لتجنبه، الحدود في عمله مخترقة، كل مخلوق تحت رحمة باقي المخلوقات، الكل حبيس حتى البشر، يستمتع قارئ العمل وصانعه يلهو به، ويعبث، بأفكار عن تحدي الزمن، والعودة إلى الوراء، نجدها هنا ممثلة في معانٍ مختلفة، فيقول: القماش لم يكن يتوقف، كأنه ينطوي من تلقاء نفسه في اتجاه اليسار، لم يكن يسمح بالعودة إلى الوراء، في حال رسم شيئاً ولم يعجب به، كان يعاود رسمه لاحقاً، بشيء من التنويع، ولا يصوب ما رسم بالفعل، فالمرسوم كالماضي، لا يتبدل.
تبدو أفكار مايرال ماثلة عن الطبيعة، وقواها، وأثرها في الإنسان. فالرسام، بطل الرواية، يسير في جداريته إلي اليسار، أمتاراً وراء أمتار، وأعواماً وراء أعوام، الزمن يتجسد في اللوحة، وأحداث حياته كما هي لا يمكن تصحيحها بالفرشاة، كما لا يمكن تصحيح يومنا الفائت، يقول الروائي الأرجنتيني على لسان ميغيل: أحياناً كانت تلك القوى تدفع القماش إلى الأمام كالسيل الجارف، تبلغ من الشدة حدا تبدأ معه الأشياء في الميل، وفقدان التوازن على القماش، بدأ يتضح هذا الاختلال في التوازن عقب غرق أختي، العام 1959، رسم سالباتييرا أركاناً من الأرياف مشؤومة إلى حد بعيد، شديدة العزلة، ثم رسم أختي على نحو أقل إيلاما، كأنها نائمة، وقد طهرها النهر.
هكذا يصور سالباتييرا محنته مع غرق ابنته في النهر، فيضع رسوماً تعكس جنونه، وحزنه الهائل، واختلال توازنه، تظهر السماء في الأسفل، والأرض بالأعلى، هكذا يعبر عن قمة الحزن على الرغم من صمته الإجباري.
لكن لماذا اختفى عام كامل من هذه الجدارية؟
هذه هي ذروة الرواية، وسرها المكنون، يعبّر عنه ميغيل أو بيدرو بقوله: “لم يترك لي الرب موضعاً خاوياً في هذا الكون سوى الصفحة”… إنها العبارة التي ربما تعبر عن الجوهرة الثمينة في رواية بيدرو مايرال، فالكيلومترات الأربعة التي رسمها سالباتييرا، مثّلت حياته العادية، التي عاشها ويعيشها كثيرون مثله، يحبون ويعشقون، ينجبون، ويفقدون أبناء، ويصادقون، ويفارقون، ويتشاجرون، ويحاربون، ثم ينتهون ببساطة، لكن ما يميز أحدهم عن باقي هؤلاء البشر، ما قد يتركه أحدهم من صفحة خاوية تركها له الرب، فملأها بما يجعلها تستحق الخلود، يكتشف الابنان ما لم يعرفاه عن والدهما. يقول لويس لشقيقه ميغيل بعد أن يعثرا على اللفافة المفقودة ويكتشفا فيها علاقة والدهما بعشيقته، أوخينيا روكامورا: ميغيل… كان ينبغي أن يتعفن هذا الشيء هنا… إننا نتدخل في ما لا يعنينا. الماضي لا يُنبش هكذا؟
ولأن الماضي لا ينُبش هكذا، فيكتشف الشقيقان، أن من أقلهما عبر النهر في قاربه، هو شقيقهما غير الشرعي. تستحق رواية بيدرو مايرال أن يتم تصنيفها ضمن أفضل الكتب الأميركية المترجمة.
ترجمت هذه الرواية للإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والتايلندية والتركية.
الجوائز
• قائمة «أفضل كتب 2013» في «ذا نيو ريبابليك»
• قائمة «الترجمات المتميزة لعام 2013» في موقع «ورلد ليتراتشر توداي»
• القائمة الطويلة لـ«أفضل الكتب المترجمة» في الولايات المتحدة عام 2014
قالوا عنها
• «أحد أكثر كُتاب أمريكا اللاتينية المعاصرين إثارة للاهتمام… كاتب استثنائي» – «كيميرا»
• «رواية مدهشة، حسية وممتعة، مبنية على متاهة من الألغاز والاكتشافات المتشابكة» – «لا فانجارديا»
• «اندماج مذهل بين المحتوى والشكل. «بيدرو مايرال» هو اكتشافي الشخصي فيما نُشر هذا العام» – «إل بايس»
• «هذه الرواية المُلغَزة تبهج بأسلوبها الرزين» – «بابليشرز ويكلي»
• «موهبة، ومهارات المراقَبة، وجاذبية، وحس للفكاهة، وُضعت كلها في خدمة سرد نَضِر وحكيم، ذي طابع قوي وملحمي» – «إل موندو»
عن المؤلف
ولِد «بيدرو مايرال» في بوينوس آيريس عام 1970.
تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، واختير عام 2007 بين كتاب أمريكا اللاتينية الشباب الأشهر ضمن فعالية «بوغوتا 39».
عن المترجم
مارك جمال يترجم عن الإسبانية وصدر له «النسيان» للكاتب الكولومبي «إكتور اّباد فاسيولينسى» وديوان «عشرون بطاقة بريدية» للشاعر الدومينيكاني «فرانك بايس».
This post is also available in: English (الإنجليزية)