الوصف

This post is also available in: English (الإنجليزية)

حضارات السند البائدة

تمت ترجمة الكتاب من خلال مشروع كلمة للترجمة

ظلت حضارة السند وحواضرها قبل اكتشافها أوائل القرن العشرين محتجبة عن أعين العالم طيلة أربعة آلاف سنة على وجه التقريب، إذ شهدت طور نضجها بين نحو العامين 2600 و1900 ق.م وأفلت بعدها واختفت لأسباب مجهولة.

تنتمي حضارة السند إلى منظومة الحضارات النهرية التي قامت بفضل توافر الماء والتربة الخصبة وما يتبعهما من ثراء الحياة النباتية والحيوانية، وبالتالي الاستقرار البشري بديلاً عن حياة الترحال، أي الحضارة بأحد معانيها.

وعلى مدار هذه الحضارة، غطت أكثر من ألف مستوطنة سندية ما لا يقل عن ثمانمائة ألف كيلومتر مربع مما يشكل حالياً دولة باكستان وشمال غرب الهند.

وعلى الرغم من اتساع رقعة انتشاره، ربما بنى شعب السند، نوعاً من الوحدة السياسية تجلت في تماثل حضارته ومنتجاتها الفنية والمادية، فشيد بيوتاً ومباني عامة من الطوب اللبن والطوب المحروق، ونظاماً للصرف الصحي لم يظهر له ند حتى زمن الإمبراطورية الرومانية.

وزرع  أهل السند الشعير والقمح والبقوليات، ودجنوا الأغنام والماعز وجاموس الماء، وصنعوا الأختام الحجرية والخرز والأساور والسفن واستخدموها في تجارة المسافات الطويلة.

لكن حضارة السند وحاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية لا تزال «عالماً يلفه الغموض» نتيجة لعدم فك رموز الكتابة السندية حتى الآن، على الرغم من انقضاء ما يناهز القرن من الاكتشافات الأثرية والبحوث حول جوانب ذلك العالم.

يطرح كتاب “حضارات السند البائد” لأندرو روبنسون تساؤلات مشروعة حول أهمية حضارات السند البائدة، خصوصًا أنها لا تضاهي، بأي شكل من الأشكال، حضارات أخرى تزامنت معها، في مصر وبلاد ما بين النهرين.

ثمة إجماع بين المؤرخين وعلماء الآثار على أن الحضارة ظهرت متزامنة تقريبًا على الأراضي المروية على طول ضفاف ثلاثة نظم نهرية: دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين، والنيل في مصر، والسند وروافده في شمال غرب شبه الجزيرة الهندية.

حضارات بادت يحييها كتاب

كانت للمدن السومرية التي يربو عددها على عشر، والتي ظهرت بالقرب من مصب نهري دجلة والفرات بين عامي 3500 و3000 ق.م، أسبقية زمنية بسيطة على الحضارتين المصرية والسندية، اللتين انبثق فيهما تعقيد اجتماعي مماثل بعد نحو ما بين قرنين وخمسة قرون.

امتدت الفترة المبكرة لحضارة السند بين نحو عامي 3500 و2600 ق.م، إذ في العام الأول بدأ استيطان هَرَبّا، وربما موهنجو دارو، الواقعتين على نهر السند وأحد روافده، اللتين كانتا في أثناء طور نضج حضارة السند الممتد بين نحو عامي 2600 و1900 ق.م تضاهيان مدنًا مثل ممفيس في مصر، وأور في بلاد ما بين النهرين.

وبين نحو عامي 1900 و1700 ق.م، ولأسباب غير معلومة حتى الآن، دخلت حضارة السند طورها المتأخر وبدأت المدن السندية في الأفول، والكتابة السندية في الاختفاء، وأخذ الناس يهجرون المدن.

تأريخًا لهذه المنطقة من العالم، أصدر مشروع “كلمة” للترجمة في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة الترجمة العربية لكتاب “حضارات السند البائد” The Indus: Lost Civilizations للكاتب أندرو روبنسون، ونقله إلى العربيّة د. مصطفى قاسم. وروبنسون هو صاحب كتب “لغات بائدة – لغز رموز الكتابة التي لم تحل في العالم” و”الزلازل – الطبيعة والثقافة” و”الهند – تاريخ موجز”، إلى جانب نحو 25 كتابًا في الفنون والتاريخ.

الحضارة المغبونة

للوهلة الأولى، تبدو حضارة السند مغبونة مقارنة بالنجمين الحضاريين الآخرين: مصر وبلاد ما بين النهرين، وهو ما يمكن إرجاعه إلى وضعية هذه الحضارة من حيث الإنجاز الفني والمعماري والثقافي والفكري مقارنة بالحضارتين الأخريين، وإلى مدى انكشاف هذه الحضارة وحاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية للعالم، مقارنة بالحضارتين الأخريين.

فإنجاز هذه الحضارة، أو ما بقي منه، أو ما تكشف منه على الأقل، لا يضاهي إنجاز حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين فنيًا ومعماريًا وثقافيًا وفكريًا، والأهم من ذلك أن الكتابة السندية لم تفك رموزها حتى الآن بعد نحو قرن شهد أكثر من مئة محاولة فاشلة لفك مغالقها.

مرد الغبن الواقع على حضارة السند نوعان: أول قهري لا دخل للحضارة فيه، وآخر ناتج من الأول، لكنه يفصح عن أنها لا يمكن بحال من الأحوال أن تقف ندًا لحضارة مصر وبلاد ما بين النهرين. أما السبب الخارج عن سيطرة هذه الحضارة وصنّاعها، فهو أنها بقيت منسية تمامًا ولا يعرف عنها شيئًا تقريبًا، خلافًا لحضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين اللتين كانتا على مر التاريخ محط أنظار الشعوب الوارثة لهما والغزاة والرحالة الأجانب ومثار إعجابهم ودهشتهم، وإن لم تفك رموز كتابتهما وتكتشف أسرار الحياة فيهما إلا منذ نحو قرنين (الكتابة المسمارية السومرية، 1815) وأكثر قليلًا من قرنين (الكتابة الهيروغليفية المصرية، 1799).

حتى بعدما اكتشفت حضارة السند في أوائل القرن العشرين، ظلت الحاضنة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لهذه الحضارة طلاسم، وذلك في المقام الأول بسبب عدم النجاح حتى الآن في فك رموز كتابتها التي يفترض أنها تحوي هذه الأفكار.

المكون الصلب

ربما كان شعب السند أقدم في الاستقرار من شعبي مصر وبلاد ما بين النهرين القديمتين، إذ ترجع أقدم المستوطنات الواقعة في مهرغره ببلوشستان إلى العام 7000 ق.م. وكذلك غطت حضارتهم مساحة أوسع كثيرًا من مساحة مصر أو بلاد ما بين النهرين.

وعلى الرغم من اتساع رقعة انتشاره، ربما أوجد شعب السند نوعًا من الوحدة السياسية، تجلت في تماثل حضارته ومنتوجاتها الفنية والمادية، وبنوا بيوتًا وبنايات عامة من الطوب اللبن والطوب المحروق، وشيّدوا نظامًا للصرف الصحي لم يظهر له ند حتى زمن الإمبراطورية الرومانية، وزرعوا الشعير والقمح والبقوليات، ودجنوا الأغنام والماعز وجاموس الماء، وصنعوا الأختام الحجرية والخرز والأساور والسفن واستخدموها في تجارة المسافات الطويلة التي وصلت حتى الخليج العربي والمدن النهرية السومرية.

لكن هل تتمثل الحضارة في الاستقرار بديلًا من الترحال، وتدجين النبات والحيوان بديلًا من الجمع والصيد، وصنع الأدوات وتشييد البنايات، فحسب؟، لا شك في أن ذلك جزء أصيل من معنى الحضارة، يمكن أن نسميه “المكون الصلب” hardware لها، لكن هناك الجزء الأهم المتمثل في الفكر أو طريقة إدارة الجماعة الإنسانية software. فإلى جانب الاستقرار والتدجين وتشييد البنايات، وربما قبله، كانت الحضارة انتقالا بالبشر من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع وانتقالا بالبشر من حالة التوحش إلى حالة الإنسانية.

لا تضاهيها

ما مدى تقييم حضارة وادي السند في ضوء هذا التعريف للحضارة؟، على الجانب المادي لا تضاهي منتوجاتها منتوجات حضارة مصر وبلاد ما بين النهرين في أي حال من الأحوال. أما على الجانب الفكري والأخلاقي والمؤسسي، فإننا على الرغم من مرور ما يناهز القرن من الاكتشافات والبحوث الأثرية، ما زلنا لا نعرف شيئًا يقينيًا عنه، أو حتى معلومات كافية لبناء صورة واضحة مكتملة له.

لكن أليس من الوارد أن يكون الجانب الفكري موجودًا بقوة في حضارة السند وأن يفصح عنه نفسه لنا في حال فُكت رموز الكتابة السندية؟ للأسف لا يعد ذلك احتمالًا واردًا. فعلى مستوى وجود مؤسسة الدولة، يؤكد تماثل مدن مثل هَرَبّا وموهنجو دارو وجود دولة موحدة، بينما يدحض تنوع الحضارة واتساع رقعتها هذه الفكرة.

حتى لو كانت حضارة السند قد تشكلت من دول مدينية، وليس دولة موحدة، فإنها على الأرجح لم تعرف نوع سلطة الحاكم الفرد الذي عرفته حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرين وأورثتاه للبشرية. وغياب الملوك والبلاطات الملكية والأسلحة العسكرية والقصور والمعابد العامة ينبئ بأن هذه الحضارة لم تُمارس فيها سلطة من النوع الذي عرف في الحضارتين الأخريين، وربما أيضا لم تشهد دولة ومؤسسات من النوع الذي يتبع وجود الدولة.

ميراث البشرية

هل أن الكتابة السندية قد فُكت رموزها. هل يمكن أن تحوي أفكارًا وقيمًا ومثلًا، وتكشف عن مؤسسات، من النوع الذي ينقل البشر من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع ومن طور التوحش إلى طور الإنسانية؟. يبدو أن الإجابة المرجحة هي لا. فعدد ما يعتقد أنه نصوص سندية قليل مقارنة بالحضارات الأخرى لا يتجاوز خمسة رموز.

دفع ذلك البعض إلى الشك في أن النقوش السندية تنتمي أصلًا إلى نظم الكتابة.

وحتى لو كانت كتابة وفُكت شفرتها، فمن غير الوارد أن تكون على قِصرها حاوية لأفكار من النوع الصانع للحضارة.

مع ذلك، تظل حضارة أو حضارات السند جزءًا من ميراث البشرية، بل وربما تمثل أيضًا، بسبب ما نعده نواقص فيها مثل غياب المُلك والأسلحة والحرب، أملًا ومبعث تفاؤل للبشرية في مستقبل يختلف عن الحاضر الذي نتج من حضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين المُعَسكرتين.

وربما يأتي الحل لكشف أسرار حضارة السند من منطقتنا العربية: من بلاد ما بين النهرين (العراق) أو فيلكا (الكويت) أو دلمون (البحرين) أو مغان (عُمان) التي ربطتها بحضارة السند علاقات تجارية وربما ثقافية ووجدت فيها منتوجات سندية مثل الأختام الحجرية والخرز وغيرها.

المصدر : إيلاف

حضارات السند البائدة

للمزيد من الكتب، زوروا منصة الكتب العالمية

 


https://old.booksplatform.net/ar/product/مقدمة-في-الصدمات-الحضارية/

https://old.booksplatform.net/ar/product/civilization-and-its-discontents/

This post is also available in: English (الإنجليزية)

TOP