الوصف
«أحوال أهل الغيبة- خاتمة الأحزان والمراثي»، كتاب صادر حديثا للمفكر والباحث اللبناني وضاح شرارة (دار رياض الريس للكتب والنشر 2018)، ويحوي هذا الكتاب مجموعة «عجالات» كتبت في ناس عرفهم المؤلف على درجات وانحاء متفاوتة ومختلفة من المعرفة، وفي مناسبة رحيلهم وغيابهم. وتمتد فترات كتابتها من مطلع الثمانينات حتى 2015.
الراحلون هؤلاء او اهل الغيبة على ما يسميهم وضاح شرارة، متنوعو المنابت والاهواء. فنانون (افا غاردنر، داليدا، مادونا غازي..)، روائيون (توفيق الحكيم، احسان عبدالقدوس،عبدالرحمن الشرقاوي)، باحثون وصحافيون (ميشال سورا، هاني درويش، أروى صالح)، ثوريون ومناضلون يساريون (علي شعيب، مرشد شبو، بشير هلال)، شعراء (بسام حجار، نزار قباني، محمود درويش)، رجال دين (علي الزين، محمدحسين فضل الله) الى جانب انسباء للكاتب (جدته زينب عسيران وعمه محمد شرارة)، وسواهم، ممن أشرت لحظة غيابهم الى حضورهم كالطفل الغريق ايلان الكردي.
والى هؤلاء الغياب، عجالات كتبت في ذكرى حوادث معينة مثل يوم 13 نيسان/أبريل 1975 (شئ اندلاع الحرب اللبنانية)، او 5 حزيران/يونيو 1967، لصلة هذه الحوادث بالغياب ولأنها «جرت موتا كثيرا وخلفت أمواتا كثيرين». محادثة الموتى يستعيد الباحث في مقالاته ما حسب ان هؤلاء الراحلين كانوا، وما جمعه بهم واليهم، في صيغة سيرة مشتركة «وبعضهم لا علم له باشتراكه فيما أشركه فيه».
وسيرة عشرات الغياب، كما يرويها شرارة، ليست بأي حال رثائية، وليس الحزن العادي ما استدعى كتابتها، «لم أكتب ما كتبت فيمن غابوا لا متوجعا ولا نادبا او «راثيا» ولا ناثرا عليهم المساء.. فهذه الكتابة تشبه شبها قويا المحادثة او المحاورة تلك التي قال فيها احد الكتاب الاميركيين انها السعادة».
عن محمود درويش يكتب شرارة «انه كان شاعراً وكاتباً وربما امرأ يومياً (ولا علم لي بالوجه الأخير) محل اجماع «عربي».. فاستقبله الجمهور، أينما حل أو حط استقبال الاهل المقيمون الابن العائد من السفر والرحلة. ولم تشق عودته، او زيارته بين الوقت والوقت، الأهل حزبان على خلاف عودة الابن الضال.. وعلى خلاف قوله (يحبونني ميتا..)، أحبه (العرب) حياً، ربما «ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا»، على قوله حادسا حدسا ثاقبا في اهواء الجمهور، وهو ممن صنعوا هذه الاهواء، وكانت له يد في صناعة الجمهور قد لا تكون قصيرة».
هاني درويش ويسأل شرارة في معرض مقاله عن الصحافي المصري هاني درويش، الذي عرفه من خلال كتاباته في ملحق نوافذ والتقى به أثناء زيارته بيروت «هل كان صاحبنا، هاني درويش، على القدر من المطابقة- مطابقة حياته (مفهومه) و(جوهره) ومطابقة حوادث حياته (معنى) هذه الحياة ووحدتها الجامعة الذي تنم به المراثي الصديقة والمتفجعة فيه؟» ليضيف انه فيما قرأه من هذه المراثي، «يبدو صاحبنا الراحل، المبكر والمستعجل، تام المعنى او المعاني، واحداً ومجتمعاً ومستوفياً شرائط المطابقة أو الحقيقة، حقيقته هو في حياته وموته وحقيقته في نفوس من يبكونه ويلقون عليه تحية الوداع». أروى صالح ويكتب شرارة في مقاله عن الكاتبة اليسارية المصرية اروى صالح (الراحلة طوعا واختيارا) ان «الباعث على هذه العجالة في كتاب اروى صالح (المبتسرون/دفاتر واحدة من جيل الحركة الطالبية) ليس رواية تاريخ الحركة الطلابية المتحدرة من أعوام عبدالناصر، على قدر ما يصح ان ينسب الى أروى صالح تأريخ لهذه الحركة او تناول حوادثها النفسانية أو الثقافية».
ويذكر شرارة ان الداعي لقراءته «المبسترون» كانت مقالة يوسي اميتاي (الحياة، 15،16 اغسطس) الذي كتب ان «ميزة الكتاب حقا، من ناحية الشكل، فهو يتميز بعدم وجود نظام او اسلوب محدد. فالعبارات طويلة ومعقدة جدا وتحتوي على كميات كبيرة من المقولات المبهمة والجمل الاعتراضية. وفجأة تقفز من موضوع الى آخر، كما ان هناك احيانا عدم اتصال نصي ومنطقي» ولكن هذه العيوب، وفق اميتاي، منحت الكتاب جودته وروعته حيث انها تعبر عن اختلاط المشاعر والانفعالات التي كانت تمر الكاتبة بها أثناء الكتابة. ويضيف شرارة ان اروى صالح لا ترطن رطانة التلامذة.. فهي لا تكتب الا منتشية بما تكتب، على ما تلمح. فتجيء جملها محمومة يضج في جنباتها الوصف والرأي واللوم والمقارنة والخيبة والرجاء، ولا تستقر على قرار، او تكاد، حتى يدعوها داع آخر الى الانزعاج، على قول المتصوفة، وترك مستقر الكلام الى وجه طارئ ومختلف. وليس هذا اسلوبا ولا «شكلا». خاتمة المراثي يطوي شرارة سيرة الغياب بفصل أخير اسماه «خاتمة المراثي»، (كتبه في نيسان/أبريل 2018)، مستعيداً قول الشاعر الاورغوياني الفرنسي جول سوبرفييل في رثاء أمه «ان الاحياء حري بهم الإغلاظ للموتى في القول أو مخاطبتهم بالشدّة».
والداعي الى مثل هذه الغلظة أو الشدة هو انصراف الموتى، موتانا، عن عالمنا، وإدارتهم الظهر له ونسيانه ربما، وانشغالهم بعالمهم الجديد. ولكن الشاعر نفسه لا يلبث ان يسر الى امه، عاتبا، ان بعضا من خفقات قلبها يتخلل خفقات قلبه، وهو يحس اختلاط القلبين، الخافقين، ويأنس اليه والى تعرف الخفقة الداخلية. والموتى في عجالات شرارة، على ما يكتب، هم اخص خصوصهم في مرآة حياة من يتذكرهم وتزوره، راضيا هانئا وصادعا على رغم منه، في يقظته الكاتبة والحالمة، خيالاتهم وأصداؤهم، على ما كان العرب يحسبون، وبقيتهم.
(جريدة القبس)