الوصف
رحلتي من الشك إلى الإيمان
يراودني إحساس أننا معشر العرب لم نستفد كما ينبغي من الإنتاج الفكري للراحل الدكتور مصطفى محمود.
يبدو أن الشهرة الطاغية لبرنامجه “العلم والإيمان” شتت الانتباه عن الالتفات إليه كمفكر وفيلسوف له في الحياة نظرات تأملية غاية في العمق والجمال.
قبل يومين عرضت لكتاب “الإنسان ذلك المجهول” للطبيب الفرنسي أليكس كاريل، وألمحت إلى بعض إشاراته في كنه الإنسان وماهيته، وسبل معرفته عقلا وجسدا وروحا، وكيفية عودته لممارسة حياته الطبيعية بعد أن كادت تقضي عليها الثورة الصناعية.
وبعد فراغي من هذا الكتاب وجدتني دون إرادة أتذكر طبيبا آخر له إلماحات وإشارات قريبة، رغم اختلاف السياق الديني والحضاري الذي عاش فيه كل منهما، إنه الدكتور مصطفى محمود، فخطر ببالي الكتابة عن أحد مؤلفاته التي تعكس ملامح مشروعه الفكري، وتبين جملة آرائه ومنبع نظراته في الإنسان والكون والحياة، فوقع اختياري على كتاب “رحلتي من الشك إلى الإيمان”.
العجيب أني ما إن بدأت أتصفح الفصول الأولى لهذا الكتاب حتى تأكد حدسي، فهو وكاريل جد متشابهين في المنهج والأسلوب والخلاصات التي إنتهيا إليها، وقد لا يكون هذا مستغربا إذا علمنا أن المرء حينما يتسامى ويشف يصل إلى جوهره الإنساني فيتشابه روحا وفكرا مع غيره ممن وصلوا إلى هذا المرتقى مهما تناءت بينهما الأمكنة وتباعدت الأزمنة، لأنهما تجاوزا قشرة الدين وثوب البيئة وقنطرة اللغة.
نشر الدكتور مصطفى محمود تجربته العقلية والروحية في كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان” عام ١٩٧٠، أي بعد ٣٥ عاما من صدور كتاب “الإنسان ذلك المجهول”.
وبأسلوب سردي رائع أبحر بنا في رحلة بحثية طويلة عن الله ومغزى الحياة وإشكاليات الخلق وأسئلة من خلق الخالق ولماذا وجد الشر وكيف نحل لغز الموت ولغز الحياة، فجاء كتابه يذكرك ب “المنقذ من الضلال” للإمام الغزالي، و”اعترافات” القديس أوغسطين.
أخبرنا المؤلف عن العصر الذي عاشه؛ عصر المبالغة بقدرات العلم، واحترام المحسوس، والاستهانة بالغيب واعتباره صنو الخرافة وقرين الأسطورة.
ثم استعرض حيرته الفكرية وظمأه للارتواء المعرفي وهو يجوب فيافي الهندوسية والبوذية غائصاً في رمال الحلولية والتناسخ وشطحات الفناء.
وحينما أضناه البحث وأيأسته النتيجة عاد إلى العلم يلتمس في واحته الراحة، لكن هذه العودة كانت مختلفة، فقد عاد إنسانا جديدا، عاد بعقل مٓن خبر الحياة، وروح مَن جرَّب طعومها ومذاقاتها. لم يكن حينما عاد ذاك الشاب الغر الذي فرض على نفسه تلك الرؤية الصارمة الضيقة التي تنكر كل ما لا يقع تحت الحس ولا تؤمن إلا بالآلة.
الآن مصطفى محمود ذلك الحكيم الذي عرف أن لا معنى لسؤال من خلق الخالق إذا آمنا أنه خالق. وعرف أن الشر فعل اختياري يتحمل مسؤليته فاعله، وأن سر السعادة في التوازن بين متطلبات الجسد وإشراقات الروح، وأن من العقل استخدام العقل فيما يقدر على فهمه وعقله. علم هذا الطبيب العربي أن الأصل الواحد للخلية لا يتعارض مع تعدد تجسداتها وأن تشابه مكونات الألوان التي رسم بها الفنانون لوحاتهم لا يعني أنها جميعا لوحة واحدة.
عند هذه المرحلة ينساب الكتاب بين ثنائيتي العلم والإيمان حتى يصل خاتمته فتستحيل كلماته وأفكاره صلوات عابد وهمسات عاشق وتسبيحات زاهد وتأملات فيلسوف ونظرات عالم وإبداعات فنان.
* محمد عبد العاطي
رحلتي من الشك إلى الإيمان
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية