الوصف
ملحمة الحرافيش
قضيت هذا الأسبوع بصحبة رواية “الحرافيش” للأديب الكبير نجيب محفوظ. جذبتني الرواية بأحداثها وسحرني المؤلف بأسلوبه فداومت على قراءتها حتى فرغت منها.
دائما، وبعد فراغي من قراءة نص أدبي لنجيب محفوظ، أشعر أني بحاجة إلى الصمت لبعض الوقت اجتر فيه هذه المتعة العقلية والوجدانية التي أفاض بها عليَّ هذا الأديب المبدع.
نجيب محفوظ ليس كاتبا عاديا.
هو رجل يحمل رؤية، ويسعى نحو هدف، ويريد إيصال رسالة. رؤية واحدة، ورسالة واحدة، وهدف واحد، مهما تنوعت القوالب الفنية وتعددت الأشكال السردية التي اعتمدها طيلة حياته الأدبية التي امتدت لسبعة عقود.
رواياته تتساءل عن القضايا الوجودية التي ما فتئ الإنسان يتفكر فيها منذ وجد على الأرض: لماذا أنا هنا؟ ما هي السعادة؟ كيف أصل إليها؟
وهذا هو جوهر رواية الحرافيش، موضوع حديثنا.
للرواية قراءتان، أولاهما سطحية تسرد مسارات الحبكة، وثانيهما عميقة تُفصح عن ماهية ما أراد الكاتب طرحهه. تقرأ في الأولى عن فتوة يُدعى عاشور الناجي وعائلته الممتدة جيلا بعد جيل، وماذا فعلت في دنياها، وكيف صرَّف القدر أمورها. وهنا تطالعك شخصيات وأحداث وأماكن عدة. عالم قائم بذاته.. عاشور الناجي، شمس الدين، وحيد، سماحه، عبده الفرَّان، زهيرة، راضي، رمانة، فائز، فتح الباب، ثم الختام مرة أخرى مع عاشور الحفيد الذي به تبدأ الدورة مجددا. وتتبع أحداث.. زواج، طلاق، غنى، فقر، زهد، قتل، عز، ذل. كل ذلك يدور في أحياء وحارات الحسينية، بولاق، العطوف، الدرَّاسة.
أما في القراءة الثانية فإنك واجد الحارة الصغيرة رمزاً للمجتمع الكبير.. كيف تتوزع مراكز القوة، كيف تُدار السلطة، كيف تُشترى الولاءات، متى تُستعمل أدوات الترهيب، ومتى تستخدم وسائل الترغيب.
تقرأ مسيرة الإنسان في صراعه المستمر مع رغباته وأهوائه ونزواته، مع المال والسلطة والجاه، مع الشيخوخه والوهن والضعف، مع المرض والموت. نظرته للماضي. دور التاريخ في تشكيل وعيه بالحاضر وتحديد زاوية نظرته للمستقبل. تقلبات النفوس، وغدر الزمان، وتصاريف القدر.
ذلك كله مغزول بأنامل السَجَّاد، الماهر، الدؤوب، نجيب محفوظ، الذي يتدفق حكمة وفلسفة بعد أن قطع طريقا طويلا من الشك حتى استقر في مقام اليقين. وبعبارات تنساب كلماتها انسياب الماء الرقراق في جوف العطشى.
تتركك رواية الحرافيش وأنت شاعر بمعاني غامضة لا تعرف كيف تصوغها، وإنما كل ما أنت متأكد منه أنَّ سعادة الفرد في أن يكون صالحاً في نفسه نافعاً لغيره، وأن خلاص المجتمع في وحدة أبنائه المستضعفين (الحرافيش) وقدرتهم على قول (لا) مزلزلة لعروش الظالمين.
محمد عبد العاطي
ملحمة الحرافيش
للمزيد من الكتب.. زوروا منصة الكتب العالمية