الوصف
كتاب “نظرية الأجيال: المجايلة التاريخية، فلسفة التكوين التاريخي، تحقيب الثقافة العربية الإسلامية”، يفسر من خلاله المؤرخ عملية السيرورة والتواصل التاريخي في هذه الثقافة، من خلال مدخلات أولية؛ أهمها “التحقيب التاريخي”، وهو لبنة أولى تحتاج إلى لبنات أخرى، من أجل تحقيب تاريخ العالم.
التحقيب التاريخي، هو محاولة لتصنيف أو تقسيم الزمن/ التاريخ إلى كتل منفصلة ومركَّبَة، بهدف معرفيّ ووصفيّ تجريديّ يوفّر معالجة مفيدة للتاريخ البشريّ؛ عندما نقرأ أعمال “جيري بنتلي” في تحقيب تاريخ العالم، ندرك منذ الوهلة الأولى أن أفكاره وتطبيقاته فيما سمّاه بـ”عبر التفاعل الثقافي” قد استلهم بشكل أكيد من الثقافة التاريخية العربية، سواء تلك التي تبلورت قبل أوانها في الكتابات التاريخية والتي يقف المسعودي على رأسها؛ أم تلك التي أكّدَ عليها الجغرافيون الأوائل في الثقافة العربية.
إن جيري بنتلي يحدّد منذ البداية منهجه، إنه يلتقط جملة من الأفكار التاريخية عن الثقافة التاريخية القديمة في المعرفة العربية الإسلامية، ويقول: “المؤرخون يعرفون جيدا أن تحديد فترات التاريخ هو الأكثر تماسكا وإتعابا، ولكنه لا يفصح عمن قصد بالمؤرخين العارفين جيدا بمسألة التحقيب، وهو منهج صعب للغاية، لكن الدكتور الجميل يفصح بجرأة بالقول: “إن المسعوديّ ومدرسته ومَن جاء من بعده وينهج نهجه، هم الذين قدّموا للبشرية ذلك الاكتشاف الذي سبق أصحابه عصرهم بقرون طوالٍ ليقدموا في البواكير الأولى نظرية يؤسسون من خلالها لمنهج كامل في التحقيب؛ كالذي وصفه بنتلي بـ”واضح المنعطفات في الماضي”.
التاريخ الكمي الثقافي
التاريخ الكمي الثقافي يدعو المؤرخ إلى أن يتعمق كثيرا بعيدا عن أسيجته التقليدية، ليكون متمرّسا في المسائل الثقافية التي يبحث فيها ويتدارسها معرفيّا على نطاق واسع، وأن ينتقل من الميثولوجيا العادية إلى المعرفية في العلوم الاجتماعية، على أن يوظّف ما يمكن استخدامه بشكل خاص في التاريخ الاقتصادي في التطبيق الكمي، وقد غدت هناك أساليب متكاملة كجزء من المنهج التاريخي الأوسع.
إن التاريخ الثقافي في أساليب بحوثه الحديثة لا يقتصر على درس بياناته الحديثة، فثمة معلومات وإحصاءات قديمة تتناثر في كتب تراثية ومخطوطات ودواوين شعر ووثائق وموسوعات، ويُعَدّ الفارابي بحسب الباحث سيار الجميل أول مؤسس لهذا النوع من التاريخ الكميّ الثقافيّ؛ في كتابه “إحصاء العلوم”.
ابتكارات الحضارة العربية الإسلامية
تفوَّق الفارابي في إحصاء العلوم لأول مرة، وصحَّت أرقام الكندي عن مسافات البحار؛ فهي أقرب إلى الحقيقة من تلك التي كتبها بطليموس، وأسس الجاحظ أفكار النشوء والتطور، وأسس ابن خرداذبة علْمَ البلدان، وأسس ابن خلدون عِلْمَ العمران البشري (الاجتماع)، وأسس الطبري تدوين الحوليات التاريخية وفق التسلسل الزمني، وصنَّف ابن خلكان في التراجم والمعرفة البلدانية، وأسس الخطيب البغدادي للمحلّيّات (التاريخ المحليّ)، وأسس المسعودي للمعرفة الموسوعية للعالم، وأسس الجرجاني لتفكيك النص الشعري، وأسس ابن الأثير فنّ الكتابة، وابن قدامة لنقد الشعر، وأثرت مدرسة حنين بن إسحاق في الترجمة، والقلقشندي في الإنشائيّات، وسجَّل أبوالفرج الأصفهاني في “الأغاني” منهجا من الاعترافات الصريحة للمعاني وغيره، أمّا في الجغرافية الإنسانية عند العرب والمسلمين؛ كما يُسمّيها المستشرق الفرنسي أندريه ميكال؛ فلقد كانت ينبوعا معرفيّا للجغرافية التاريخية التي تطوّرت تطوّرا كبيرا في القرن العشرين.
ولعل الثقافة العربية الإسلامية؛ بحسب الباحث؛ هي أبرز ثقافة اهتمت بحياة أبنائها، وتراجم أعيانها ومستويات طبقاتها، وسِيَرِ زعمائها وقادتها وعباقرتها، وهي ظاهرة لم تكن وليدة تطوّر تلك “الثقافة” وثقل عناصرها، بل إن جذورها تعود إلى اهتمام العرب منذ القدم بالإنسان عضوا في وحدة اجتماعية قويّة عند العرب هي “القبيلة”. وعليه؛ فإن خصوصية العرب الاجتماعية إنما تفصح عن تمسّكهم واعتزازهم بـ”الأنساب” و”الأصلاب” و”الأرحام” كأحد أبرز المعايير السوسيولوجية التي مَيَّزَت العرب عن غيرهم، علما بأن النَّسّابين العرب كانوا (ومازال بعضهم اليوم فُرادى) يحفظون أنساب العرب قاطبة مشافهة ورواية.
تكوينان: سياسي وحضاري
يدعو الباحث في هذا الكتاب المهم؛ إلى الفصل بين تكوينين أساسيين اثنين في الحياة التاريخية العربية- الإسلامية: تكوين سياسي وتكوين حضاريّ، متأملًا الفصل بين كل ما هو سياسيّ تابع لتاريخ الدولة، وبين كل ما هو حضاريّ تابع لتاريخ المجتمع؛ ليُشير- وهو مُصيب- إلى أن هذه “الثنائية” المتباعدة والتي لم يدركها بعد إلّا الندرة القليلة، هي السبب في جعل الرأي المثقف، العام، في دنيانا العربية والإسلامية يُفكّر أن كل ما هو ماضٍ في الحياة التاريخية العربية- الإسلامية هو زاهر رائع، وأن كل ما هو حاضر اليوم لديه قاصر خانع، وأضيف إلى قوله؛ إن طائفة أخرى لا ترى في تاريخنا سوى الخراب والدماء، ولا تجيد النقد بل كيل الشتائم واللعنات للماضي، وهاتان الرؤيتان ترسّختا في الوعي واللاوعي معا من رواسب ومركّبات ذهنية نتيجة سوء ما تعلّمته أو ما قرأته، أو ما تربت عليه على امتداد عقود القرن العشرين.
أدى استبداد الأنظمة العربية إلى ردة فعل؛ حتى عند العرب أنفسهم، الذين بدأ جزء كبير من “مثقفيهم” النظر إلى عروبتهم باستهجان واضح، ويسود منذ عدة عقود أن “تاريخنا هو ماضٍ وليس تاريخا بالمعنى الدقيق” و”صحراوية الحضارة العربية” ونسب كل جميل فيها لغير العرب، هذا ما يقترفه ويردده “المثقفون” بلا وازع من ضمير وبلا أدنى شعور بالمسؤولية، لكن الدكتور سيار الجميل بعلميته ومنهجيته الصارمة يُوضّح لنا بأن الحضارة العربية- الإسلامية، كانت مَدَنيّة معرفيّة أكثر مما هي سلطوية سياسية! ونحن عندما نتحدث عن مَدَنِيَّةٍ عظيمة، فإننا نعني فوق كلِّ شيء، تراثا بشريّا ناتجا عن حضارةٍ واعيةٍ تمام الوعي، ومنتشرة تمام الانتشار، وعن دراسة مدنية معينة، يكون في أول اهتماماتنا التعرف على خصائص تلك الحضارة التي كانت الأكثر خصوصية وتميزًا؛ بفعل قوة مكتسباتها ومنتجاتها.
العنوان عتبة النص، وعنوان هذا الكتاب، يكشف نظرية للأجيال الثقافية- المعرفيةَ العربية على امتداد سبعةٍ وأربعين جيلا، ودور المدن العربية في هذه الثقافة، إنها كما قال الباحث، ثقافة مدن؛ ويمكن التوسع في كل جيل من الأجيال التي تمتد إلى ما يقرب من ألف وخمسمئة سنة، مثلما يمكن التوسع في كل موضوع تناوله الباحث، وكل موضوع من هذه المواضيع يمكن أن نخرج بكتاب ضخم إن لم يكن موسوعة، لقد وضع الباحث سيار الجميل لبنة أساسية في عمارة تستحق أن تُنجز، وهو يُعبر عن أمنيته في متن الكتاب بأن يُكمل مشروعَهُ هذا باحثون آخرون وأن يتوسعوا فيه، فهو مشروع لا يمكن أن ينهض به فرد واحد.
“نظرية الأجيال” كتاب يعطيك الكثير حين قراءته، لا بدّ لك بعد إتمامه أن تعي أن غالبية السرديات، ومعظم الخطاب المتداول في ما يتعلق بالتاريخ فيه استخفاف كبير؛ بل ووقح؛ بفهم التاريخ، بوصفه علما لا يمكن الفتوى فيه حتى في أصغر الأمور وأكثرها هامشية، كتاب يُعدّ بحق منهجا لا بدّ أن يمر به كل من يَودّ الحديث في التاريخ، ومَن يُبدي رأيا في الحضارة العربية الإسلامية والعرب وبقية القوميات والإثنيات، مدافعا أو مهاجما، إنه درس يقيك الوقوع في ما وقع ويقع فيه كثير من “النخبة” من إطلاق آراء غريبة وعجيبة، مبنية على أوهام وعواطف جياشة سلبية أو إيجابية؛ وهم يجهلون أن التاريخ ليس تاريخا سلطويّا دمويّا فقط، بل هناك تاريخ اجتماعي وثقافي، تاريخ المكتبات والعلماء والمبدعين، والمثقفين والكُتّاب عموما.
في جدلية الأستذة والتلمذة
جدلية المجايلة التاريخية، يذكر الباحث وجهة نظر لهيغل (1770-1831م): “إن التاريخ البشري يتألّف من مراحل مختلفة، في كلّ منها تظهر الروحية الكونية ذاتها في روح أو إرادة معيّنَة مجتمعية أو وطنية؛ هذه الروح (الإرادة) تسيطر في عصرها، ولكن لها حدودها، وعندما تهمل هذه الحدود، فإن روحا جديدة تنبعث في شعبٍ آخر”. ويطرح الباحث سؤالًا: أين تقف كونية الحضارة العربية- الإسلامية، من هذه العملية؟
بلا شكّ فإن الحضارة العربية- الإسلامية خضعت لهيمنة هذه الإرادة، لا سيما في بواكير مراحلها الأولى وأجيالها التأسيسية، إذ نجد الولاء الجمعي نفسيّا واجتماعيّا للإرادة الواحدة، التي عُدَّت رابطا أساسيّا جمع بواسطته عدة حالات متباينة في حالة واحدة ضمن أنظمة فكرية متنوعة. وقد تميز العرب المسلمون عن غيرهم من الشعوب في ميراث ضخم يُعنى بالسّير والتراجم، وهو ما يخدم في بناء المجايلة التاريخية. وَفَضَحَت الزاعمين عنوةً وبلا وجل؛ بأن تاريخ العرب المسلمين الحقيقي، عهودَ حُكّام وأُسَرٍ حاكمة وسلطات وتمزقات سياسية وانقسامات داخلية فقط، فهذا التراث الضخم من موسوعات ومعاجم السِّيَرِ والتراجم، لأعلام هذه الأمة، يوَضّح ويُثبت أنه تاريخُ نموٍّ حضاريٍّ متراكم في تقاليده وحفظه على أيدي سلاسل عنقودية متواصلة من العلماء والطلبة (= الأستذة والتلمذة) من جيل إلى آخر.
نظرية الأجيال عمادها “الأستذة والتلمذة” أي سلاسل الأجيال، إذ ما من “كاتب” شاعرا أو فقيها أو مؤرخا أو جغرافيّا أو نحويّا أو متفلسفا أو أي صنف من أصناف الكُتّاب كان؛ إلّا ولديه أساتذة درس عليهم وتلاميذ درسوا على يديه، إذ تخبرنا مئات السّير وتراجم الأعلام وكتب الطبقات، أن هناك تأكيدًا واضحًا على جانبين أساسيين:
أولهما: الاحتفاظ بنزعة انتماء كبير لكل جيل سابق من أيّ جيل لاحق، اعترافا بفضله ودَين أساتذته الذين كانوا يمثّلون حلقة واحدة من سلسلة حلقات متوارثة ومتواصلة عن أجيال سابقة من أجل تكوين أجيال لاحقة. ثانيهما: التعبير الخصب والمتنوع عن واقع متعدد الجنبات، غني بالتفاعلات، متباين في النزعات، مثقل بالنخب والطبقات.
سلاسل الأجيال هذه خلَّفت لنا تراثًا تدوينيًّا بوصفه البرهان الحقيقي والأكثر دقة وقوةً على كثافة الوجود السكاني لمجموعة لغوية ما، وهذا يجعل من مزاعم أي مجموعة سكانية؛ شفاهية كانت أو كتابية؛ بأحقيتها في مدن وبلداتٍ ما، في بلدان مثل العراق وبلاد الشام ومصر، تصل إلى جريمة الاحتلال حين يكون ميراث تلك المدن والبلدات غالبيته المطلقة ليس بلغتها، وبلا شكّ وبدون أدنى مواربة، فإن مزاعم الشفاهيين أكثر إيغالًا من جرائم الاحتلال والإلغاء والإقصاء والعنصرية والتزوير. لأنه لا يمكن لشفاهيين أن يكون وجودهم في تلك المدن والبلدات إلّا وجودًا هامشيًّا وإلّا لتحولوا إلى الكتابة والتدوين وأنجزوا تراثًا يُعطي تلك المدن والبلدات هُويتها القومية.
دور المرأة ومجايلة النّسوة المثقفات
اشتهرت الحضارة العربية الإسلامية بوجود النساء في فضائها الحضاريّ، ولكن الجواري والمغنيات أخذنَ حيّزا واسعا من الوعي الجمعي العام، فتمّت إزاحة المثقفات العالمات والمحدثات والأديبات نحو رفوف الكتب التي لا يقرأها إلا النخبة بل نُخبة النخبة، وهنا يرينا المؤرخ ومؤلف سِفْرِ “نظرية الأجيال” بجدول إحصائي مهم، يبين عدد النسوة في بغداد وحدها في القرنين الخامس والسادس الهجريين/ القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وأن عدد النساء الشاعرات والكاتبات قد بلغ (189) امرأة؛ منهن (15) امرأة عشن في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، و(85) امرأة عِشْنَ في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، و(80) امرأة امتدّتْ حياتهن إلى أوائل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، و(9) كُنّ من المخضرمات بين القَرنين الخامس والسادس الهجريّين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديّين.
مجلة الجديد