نهاية القطيعة بين الإيمان وعلوم الطبيعة.. تجارب الاقتراب من الموت

عنوان الكتاب نهاية القطيعة بين الإيمان وعلوم الطبيعة.. تجارب الاقتراب من الموت
المؤلف محمد جلالي
الناشر مطبعة سيعدان للطبع والنشر
البلد تونس
تاريخ النشر 2021
عدد الصفحات 212

أشتري الكتاب حقوق الترجمة

الوصف

بالرغم من الحظوة الفائقة والاهتمام البالغ اللّذان يلقاهما النصّ القرآني من قبل دارسيه، تفسيرا وتأويلا، سالفا وحاضرا، ليس أقلّهما جهود المتأخّرين في توظيف المنـاهج البنيوية الحديثة في التفسير كعلوم اللّسانيات والسّيميائيات، مركّزين جهودهم بالخصوص على فهم آليات اتساق النّصوص وانسجامها، فإنّه يغلب على الخطاب الديني، وفق كثيرين، انزياحه نحو مربعات فهم أي القرآن الكريم ضمن السّياق التاريخي لإنتاج الأفكار. ممّا جعله أسيرا لمراحل وحقب تاريخية ماضية.

 ولئن أفلحت جهود كثيرة في إبداع مناويلَ جدّ فعّالة لتحليل الخطاب القرآني، مسندة بذلك خمائر تفسيرية سابقة لذوي الاتجاه اللغوي والبياني، مثل أبي القاسم الزمخشري وفخر الدين الرازي ومحمد الطاهر بن عاشور، الذين اجتهدوا، دون معاصريهم، في الكشف عن البعد النصّي في القرآن، فإنّ طيفا واسعا من الشيوخ والفقهاء والخطباء لم يدرك بعدُ أنّ القرآن الكريم نصّ متعال مفتوحة معانيه على الشّروط الحضارية، وأنّه “كلّما  ارتفع سقف المعرفة تولّدت منه المعاني والفُهوم المخبوءة المكنونة طيّ آياته البيّنات، لأنّه الكتاب المجيد الذي لا يبلى مع الأيّام وتطاول الأزمان. وهو الكريم الذي لا ينضب معينه، يعطيك من فضله كرما عطاء سمحا سخيّا غير مجذوذ، ويمنح متدبّره على قدر صدق النوايا في إدراك ما غمض من بديع كلماته”. فها هي معارف وعلوم تقطع أشواطا بخطى عملاقة، محاولة كشف أسرار الكون والمادّة والنفس البشريّة حتى تكون هذه المعارف والاكتشافات ملكا مشاعا ضمن الوعي الجمعي وفي متناول أفهام غالبيّة النّاس وعوامهم.

 في هذا الإطار يتنزّل الكتاب الجديد “نهاية القطيعة بين الإيمان وعلوم الطبيعة (تجارب الاقتراب من الموت)” للأديب التونسي الأستاذ محمّد جلالي، صاحب كتاب “اللسان العربي تاريخا وأسرارا” (لسانيّات)، والذي اجتهد خلاله في إيضاح ما توصّلت إليه الأبحاث في العلم التجريبي، وربطه بحقائق الإيمان، على وجه الخصوص في ما يتعلّق بتجارب الاقتراب من الموت، التي أثبتت محدوديّة العلم التجريبي واعتراف علماء كثر بحقيقة الرّوح وإمكانية انفصالها عن الجسد.

 يحاول محمّد جلالي، المحامي والكاتب والقاضي التونسي السابق، في كتابه الذي بين أيدينا التبسيط قدر المستطاع “أملا في استفادة نسبة من الشباب، ودفعهم إلى الفضول والتساؤل عن أسرار الكون والوجود، حتى يدركوا أنّ المعرفة بمفهومها الشامل هي التي تمنح حياة الإنسان معنى”. ويحسب للأستاذ محمّد جلالي جهده البيّن وثقافته الموسوعيّة اللتين أبداهما طيلة السنوات الأخيرة في إطلالاته الإعلامية الرمضانية من على منابر الفضائيات التونسيّة، والتي أسهمت في فتح مداخل معرفيّة جديدة في تدبّر القرآن، وكشف بعض هنات التفاسير القرآنية الحديثة والعوائق البنيوية والمعرفية التي قد تحول دون انفتاح القرآن على ما يسميه هو بالشرط الحضاري للأمّة. وها هو يؤكّد استمراره وشغفه بتدبّر القرآن الكريم وآيه عبر نوافذ الكتابة.

 

بنية الكتاب

 يبيّن الكاتب محمّد جلالي كيف يلتقي وحي النص القرآني مع العلم الحديث، ممثّلا في فيزياء الكمّ وعلم الكونيّات (الكوسمولوجيا) وعلم الأعصاب والدّماغ. وكذا تجلّيات العارفين تتفق في انسجام بديع على إثبات الخالق الأسمى وإقرار وجود الرّوح أو النّفس الإنسانيّة والعالم الآخر. وهذا التلاقي بين العلم والإيمان والعرفان في إقرار تجارب الاقتراب من الموت يحصل لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة، بعد قطيعة معرفيّة استمرّت طويلا يؤكّد الجلالي.

 

وقد تهيّأت الأرضيّة المعرفيّة لهذا التلاقي بين الإيمان والعلم والعرفان بظهور عديد الحقائق العلميّة الجديدة التي مهّدت الطريق لعلم الأعصاب والدّماغ، فسار بخطى ثابتة واثقة باتجاه حقائق الإيمان، التي ظلّ الدّين يحتفظ بها منذ آلاف السنين. ويقصد بالعلم هنا العلم الطبيعي أو العلم التجريبي الذي يدرّس المادّة الموجودة في الكون، وهو يشمل علم الكيمياء وعلم الفيزياء وعلم الفلك وعلم الأحياء وعلم الأرض. وقد قدّم الكاتب عرضا سريعا موجزا لأهم مكتشفات العلم التجريبي الحديث، عن بداية الخلق ونشأة الكون وطبيعة المادّة ثم تهيّأ لإثبات تلاقي العلم بالإيمان والعرفان.

 

ظاهرة الاقتراب من الموت

يطلق على تجارب الاقتراب من الموت عدّة أسماء في فرنسا منها “تجربة الإشراف من الموت Expériences à la Frontière de la mort وتجربة الاقتراب من الموت Expériences de mort approchée وتجربة الموت الوشيك Expériences de mort imminente، لكن التسمية الأخيرة هي المعتمدة علميّا، ويرمز إليها اختصارا EMI.  ولفت تكرر حالات الموت الوشيك انتباه الطبيب والفيلسوف الأمريكي ريمون مودي Raymond Moody، الذي بدأ يتابع هذه الحالات، ويستمع إلى الذين مرّوا بهذه التّجربة، معتنيا بدراستها وتوثيقها، وتأكّد من صدق مشاهدتهم أثناء العمليّة، وهم في حالة إغماء تام، أو موت سريري توقّف فيه خفقان القلب وجميع أنشطة الدّماغ وكلّ الأعضاء الحيويّة في الجسم. وهو أوّل من أطلق على هذه الظاهرة اسم “تجارب الاقتراب من الموت” (Near Death Experiences).

 

نهاية القطيعة بين العلم والإيمان

ألّف ريمون مودي كتابه الأوّل في الموضوع “الحياة بعد الحياة” ثمّ أردفه بكتاب ثان بعنوان “تأمّلات في الحياة بعد الموت” (Life after Life). وقد وضّح ريمون في مؤلفه الأخير أهميّة وجودنا في عالم الدّنيا وأنّ كلّ فعل مهما كان بسيطا أو تافها لا قيمة له في نظرنا، هو عمل كبير. وأنّ كلّ إنسان في هذه الحياة له قيمة كبيرة، وأنّ له مهمّة عليه إنجازها في حبّ الآخرين ومساعدتهم. ونسج على منواله مورس ملفن Morse Melvin، المختص في طب الأطفال، وبدأ هو أيضا بدراسة حالات الاقتراب من الموت عند الأطفال. ونشر كتابه “أقرب ما يكون من النّور”. وسرعان ما انتشرت الأبحاث في كلّ أوروبّا وألّفت عشرات الكتب، نذكر منها كتاب جان جاك شاربوني Jean Jacques Charbonnier “سبعة أشياء معقولة تحملك على الإيمان باليوم الآخر Les sept bonnes raisons de croire à l’au-delà و”الرجوع إلى الحكمة” و”أرسلت عشرة آلاف شخص إلى العالم الآخر” وغيرها.

 

لم يقتصر الأمر على الأطبّاء والجرّاحين وعلماء الأعصاب والدّماغ، بل حتّى الذين عاشوا هذه التّجربة، ألّفوا كتبا تصف تجربتهم التي عاشوها في الاقتراب من الموت، على غرار طبيب الأعصاب أبين ألكسندر Eben Alexander الذي ألّف كتابه “دليل الجنّة”. وعقدت المؤتمرات الدّولية والندوات العلميّة، على نطاق واسع، لدراسة هذه الظّاهرة ومناقشتها. وتأسست الجمعيّات والمنظّمات العلميّة أهمّها “المؤسسة الدّوليّة لدراسة تجارب الاقتراب من الموت”. وأعدّ فرانسوا لاليه François Lallier أطروحة دكتوراه في تجارب الاقتراب من الموت، درس فيها 18 حالة، من الذين مرّوا بهذه التّجربة سنة 2015 بجامعة “رانس” بفرنسا، والتي أكّد فيها على وجود الوعي خارج الجسد، منفصلا عن المادّة. وأكّد شاربونيه أن أطروحة الدكتوراه هذه والتي أشرف عليها هو نفسه، تعتبر خطوة أولى هامّة لإزالة الغشاوة عن عيون علماء الطبيعة وإنهاء القطيعة المعرفيّة بين العلم والإيمان إلى الأبد.

 

تجارب لقيت صدى كبيرا في الأوساط العلميّة

يعرض الكاتب سردا موجزا لبعض حالات الاقتراب من الموت التي لقيت صدى واسعا واهتماما كبيرا، في الأوساط العلميّة لغرابتها، وحيّرت الدّارسين لهذه الظّاهرة، بقدر ما أعطتهم ثقة كبيرة في صدق هذه التجارب. ومن بين تجارب الاقتراب من الموت التي أتى عليها الكتاب نذكر تجربة الطبيب وجرّاح الأعصاب والأستاذ المحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية  ايبين الكسندر Eben Alexander الذي أجريت له عمليّة جراحيّة سنة 2008 على دماغه. وقام ايبين ألكسندر بإخبار عائلته برحلته المثيرة إلى العالم الآخر. حيث يؤكّد ايبين في كتابه “دليل الجنّة” (proof of heaven) “أنّه خرج من جسده، وارتفعت روحه إلى سقف الغرفة، وشاهد كلّ تفاصيل العمليّة الجراحيّة التي أجريت له، ودخل بعد ذلك في ما اعتقد أنّه نفق، ليجد نفسه في عالم نوراني مفعم بالحب..”.

 

كان ايبين ألكسندر، جرّاح الأعصاب، قبل تجربة الاقتراب من الموت ملحدا، ويعتقد أنّ العلم التجريبي هو الطّريق الوحيد إلى الحقيقة، وأنّ الدّماغ هو الذي يخلق الوعي، ولكنّه بعد التجربة، اكتشف أنّ العالم أوسع ممّا كان يعتقد، وأنّ الوعي لا يوجد في الدّماغ، بل في الرّوح، في النفس السّاكنة في جسده”. لم يعد ايبين كما كان من قبل  بل صار عميق الإيمان بالإله الواحد الذي ليس كمثله شيء. ويقول محمّد جلالي إنّ كلماته في لقاءاته وندواته العلميّة وكتبه المنشورة بعبارات “جلال الدّين الرومي” و”السهروردي” و”النّفري” و”محي الدّين بن عربي”. وألّف ايبين ألكسندر بالاشتراك مع “ريمون مودي” كتابا أسمياه “الدّليل على وجود العالم الآخر.. حوار بين “ايبين ألكسندر وريمون مودي”.

 

تأثير تجارب الاقتراب من الموت

لم يقتصر تأثير تجارب الاقتراب من الموت على الذين خبروها بل كان لها وقع كبير على الدّارسين والباحثين فيها والمهتمّين بها، وكثير منهم قام بمراجعات فكريّة، وأصبحوا أكثر روحانيّة وأعمق إيمانا، إلى حدّ الذي يذهب في ظنّك، أنّهم من أصحاب الذّوق والعرفان الذين حفلت بهم حضارتنا الإسلامية وحضارة الهند وبلاد فارس والشرق عموما.

 

ومن الأمثلة الساطعة على هذا التّأثير حالة “انطوني فلو” Antony Flew، أحد أكبر فلاسفة القرن العشرين، ويعتبر من منظري الإلحاد، وقد ألّف أكثر من ثلاثين كتابا في الفلسفة التحليلية، ومن كتبه الشهيرة “اللاهوت والتزييف” الذي نشره عام 1950 وكذلك كتابه “الله والفلسفة” الذي نشره في السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يؤلّف كتابه “هناك الإله”، الذي أعلن فيه إيمانه بالإله صراحة الخالق، وأرجع سبب تخلّيه عن الإلحاد إلى الدقّة في قوانين الكون وانسجامها المذهل والإبداع التكويني، وخاصّة الحمض النووي ومسألة نشأة الكون.

 

النّفس والرّوح

يخلص محمّد جلالي إلى أنّ كلّ الذين مرّوا بتجربة الاقتراب من الموت أكّدوا أنّ أرواحهم خرجت من أجسادهم، وأصبحوا أكثر حريّة وانطلاقا، وازداد وعيهم بذواتهم. وهذه التجارب جعلت علماء الأعصاب والدّماغ وعلماء النّفس يقرّون بوجود روح منفصلة عن الجسد، متعالية عن المادّة، وبقي الخلاف محصورا في التسمية، أنسمّيها روحا أو نفسا أو وعيّا؟

 

وحقيقة النّفس هذه، هي من الحقائق المسلّم بها في جميع الكتب السماويّة. فآدم قد تلقّى نفخ الرّوح فيه من الله مباشرة، قال تعالى مخاطبا الملائكة (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين). ومسألة النّفس الإنسانيّة، استأثرت باهتمام الباحثين والدّارسين في كلّ الحضارات، وعلى مدى كلّ الأزمنة. ويعتبر ابن سينا من أهمّ الفلاسفة المسلمين الذين تعمّقوا في دراسة النّفس الإنسانيّة، تحليلا وتعليلا واستنتاجا.

 

الزمان بين التجارب والقرآن

يشير الكاتب محمّد جلالي إلى أنه في تجارب الموت المؤقّت، يخبر الجميع أن لا وجود للزمان هناك، الحاضر لا شيء غير الحاضر. ويخبرنا القرآن أيضا، عن هذه الحقيقة. فالناس يوم القيامة ستدرك ما أدركه هؤلاء الذين عاشوا تلك التجربة، ويتفاجؤون بانعدام الزمن ويبدؤون بالمقارنة، ويقيسون بين ما كانوا عليه في الدّنيا، وما هم عليه في الآخرة، لكنّهم في البداية، لا يستوعبون ذلك استيعابا كاملا. (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا. يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لّبثتم إلاّ يوما (طه)).

عربي 21

 

 

 

TOP